حقيقة الدعاء المستجاب: المفهوم، والشروط، والموانع

يُمثّل الدعاء جوهر العبادة ولبّها، وهو الصلة المباشرة بين العبد وخالقه. وقد أكّد الوحي على أهميته ومكانته، متضمناً الوعد الإلهي المطلق بالاستجابة. ومع ذلك، قد يثور تساؤل حول مفهوم “الاستجابة” وشروطها، وهو ما يتطلب فهماً دقيقاً لنصوص الوحي ومنهجها.

1. الوعد الإلهي: حتمية الاستجابة

إن المبدأ القرآني الأساسي هو أن الدعاء عبادة، وأن هذه العبادة مقرونة بوعد إلهي لا يتخلف. يتجلى هذا في قوله تعالى:

(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر: 60).

ربطت الآية الكريمة بين الدعاء (ادْعُونِي) والعبادة (عِبَادَتِي)، وجعلت الإعراض عن الدعاء استكباراً. كما أكد القرآن الكريم على القرب الإلهي المطلق، الذي يُعد أساساً لليقين في الاستجابة:

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186).

2. مفهوم الاستجابة: أشكالها وتجلياتها

إن الإشكال الذي يقع فيه البعض هو حصر “الاستجابة” في صورة واحدة، وهي تحقق المطلوب بعينه وفي الحال. بيد أن السنة النبوية وسّعت هذا المفهوم، وبيّنت أن استجابة الله للعبد تتخذ صوراً متعددة، فالدعاء لا يُردّ أبداً.

يوضح ذلك الحديث الشريف: {ما مِن عبدٍ يدعو اللهَ بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رحِمٍ إلا أعطاه اللهُ بها إحدَى ثلاثٍ: إما أن تُعجَّلَ له دعوتُه في الدنيا، وإما أن تُدخرَ له في الآخرةِ، وإما أن يُصرفَ عنه من الشرِّ مثلُ ذلك. قالوا: يا رسولَ اللهِ إذا نكثرُ؟ قال: اللهُ أكثرُ}.

فالاستجابة حاصلة قطعاً، إما بتحقيق المسألة، أو بادخارها أجراً في الآخرة، أو بكفّ سوءٍ ومكروهٍ عن الداعي.

3. شمولية الاستجابة: من المضطر إلى المشرك

تتجلى رحمة الله في استجابته حتى في أحلك الظروف ولأشد الناس حاجة، بغض النظر عن حالهم، فالدعاء عند الاضطرار له شأن خاص:

﴿أَمَّن يُجيبُ المُضطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكشِفُ السّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفاءَ الأَرضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَليلًا ما تَذَكَّرونَ﴾ (النمل: 62).

بل إن القرآن يقرر أن الله يستجيب لدعاء الكفار والمشركين إذا أخلصوا له في لحظة الشدة، مما يدل على أن أصل الاستجابة مرتبط بصدق اللجوء والاضطرار:

(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (العنكبوت: 65).

فإذا كانت هذه رحمة الله بمن أشرك به عند صدق دعائه في كربه، فكيف بعبده المؤمن الموحد؟

4. نماذج قرآنية في الدعاء

يقدم القرآن الكريم نماذج راقية من أدعية الأنبياء، التي تُظهر اليقين وقوة الطلب والتأدب مع الله:

  • دعاء الملك العظيم: كنبي الله سليمان عليه السلام الذي سأل أمراً خارقاً للعادة بيقين:

    (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (ص: 35).

  • دعاء الافتقار والحاجة: كنبي الله موسى عليه السلام حين بلغ به الجهد والتعب، فلجأ إلى ربه بلغة العبد المحتاج:

    ﴿رَبِّ إِنّي لِما أَنزَلتَ إِلَيَّ مِن خَيرٍ فَقيرٌ﴾ (القصص: 24).

  • دعاء الأثر الممتد: كدعاء الخليل إبراهيم عليه السلام، الذي تجاوز حدود الزمان والمكان، فدعا لأرض مكة بالأمن والرزق ولأهلها بالهداية، فامتد أثر دعائه عبر العصور:

    ﴿رَبَّنا إِنّي أَسكَنتُ مِن ذُرِّيَّتي بِوادٍ غَيرِ ذي زَرعٍ عِندَ بَيتِكَ المُحَرَّمِ… فَاجعَل أَفئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهوي إِلَيهِم وَارزُقهُم مِنَ الثَّمَراتِ…﴾ (إبراهيم: 37).

    ﴿وَإِذ قالَ إِبراهيمُ رَبِّ اجعَل هذا بَلَدًا آمِنًا وَارزُق أَهلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ…﴾ (البقرة: 126).

5. موانع الاستجابة وآداب الدعاء

رغم أن الوعد بالاستجابة مطلق، إلا أن الوحي بيّن وجود موانع قد تحول دون تحقق الدعاء بصورته المطلوبة، كما أرشد إلى آداب تعزز قبوله.

أولاً: موانع الاستجابة

يُعد “أكل الحرام” من أعظم الموانع التي تحجب الدعاء. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بوضوح في الحديث الذي رواه مسلم (1015):

{…ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟}.

فالاستفهام “فَأَنَّى يُسْتَجَابُ” هو استفهام استبعاد، أي: كيف يُستجاب له وقد تحيّط به موانع الإجابة من كل جانب.

ثانياً: آداب الاستجابة

لتعظيم فرص القبول، أرشد الشرع إلى آداب يُندب للداعي الالتزام بها:

  1. الاستغفار والتوبة: يُعد الاستغفار تمهيداً لطلب الحاجات، إذ يزيل العبد موانع الذنوب قبل أن يشرع في الطلب.

  2. الثناء على الله والصلاة على نبيه: إن البدء بحمد الله والثناء عليه، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، من أقوى أسباب القبول. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:

    {إذا صلَّى أحدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللهِ والثَّناءِ عليهِ ثُمَّ لَيُصَلِّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ثُمَّ لَيَدْعُ بَعْدُ بِما شاءَ} (رواه الترمذي).

>> إن الدعاء علاقة تعبدية مستمرة، وهو بحد ذاته مقصد وغاية. والوعد الإلهي بالاستجابة قائم، إما بتحقيق المراد، أو بدفع السوء، أو بادخار الأجر. ويبقى على العبد أن يُخلص في دعائه، ويُطيّب مطعمه، ويلتزم بآداب الطلب، موقناً أنه يناجي رباً قريباً مجيباً.

Loading

الكاتب: أحمد بن محمد حلواني