أجد عند كثيرٍ من الناس صورةً حالمةً عن الكتابة، فطورًا هي الحبيب الذي يبوح له الكاتب بمكنونه، فيدفع عنه الملل، وطورًا هي الأوكسجين الذي يتنفسه حين يضيق صدره بهمومه، فيطرح عنه العلل.
ولستُ أماري في منزلة الكتابة من نفوسهم، ولا أرتاب في حقيقة شعورهم، لكنّ هذه الأوصاف التي يسبغونها عليها، وينسبونها إليها، تشيح الطرف عن وظيفتها التواصلية، وحقيقتها الاجتماعية، وما عسى أن تتفتح به أكمامها من الأغراض والثمرات.
إنّ الرأي الذي أركن إليه، وأعوّل في حمل القلم عليه، هو أنّ الكتابة وإن كانت فنا وصنعة فإنه لا وزن لها إذا لم تبعث عليها غاية جليلة، ولا قيمة لها إن لم تشتمل على رسالة نبيلة. وكل نصٍّ لا يُقصَدُ به نفع القارئ أو التأثير فيه فليس يعدو أن يكون انفعالًا وجدانيًّا أو انقداحًا فكريًّا لا يلبث أن تخمد جذوته، وتنطفئ جمرته.
فالكتابة في حقيقتها ضرب من الكلام، ولا يتصور في الكلام أن يقوم على ساق ما لم يكن له سياق يبدأ بالمتكلم وينتهي بالمخاطب. غير أنها كلام مكتوب، وفضل المكتوب على المنطوق أنه يضرب في الأرض وينطلق، حتى يسخر من حدود الجغرافيا، ويبقى على الزمن ويثبت، حتى يشخص في أروقة التاريخ.
وقد ألمح الجاحظ إلى هذا المعنى إلماحة بديعة، فقال بعد تحليلٍ عميق لطرائق الأمم في حفظ آثارها وتخليد حضاراتها: “وقد نُقِلَتْ هذه الكتب من أمّة إلى أمّة، ومن قرن إلى قرن، ومن لسان إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنّا آخر من ورثها ونظر فيها. فقد صحّ أنّ الكتب أبلغ في تقييد المآثر من البنيان”[1]
ولو استحضر الكاتب في ذهنه أنه مسافر بأحرفه أكيالًا فأكيالا ، ومخاطبٌ بألفاظه أجيالًا فأجيالا، لحرص كل الحرص على تجويد ما يكتب وتقويم ما يرقم، ليكون للعين نزهة وجمالا، وللعقل زينةً وكمالا، وللقلب مؤنسا ونديما، وللنفس هاديًا ودليلا.
فإنّ الكلمة أمانة ثقيلة، ورسالة عظيمة، لا ينهض بحملها إلا صاحب الضمير الحيّ، والشعور الصادق، والمبدأ القويم. وإن الأمّة أحوج ما تكون إلى كتاب وأدباء هذه صفتهم، يستنهضون الهمم، ويوقدون العزائم، ويدلُّون على الخير، ويرشدون إلى سبُلِ الإصلاح والصلاح. مع اعتزاز معرفي وأنفةٍ ثقافية[2] لا تخضع لسلطة النموذج الغربي الغالب.
——————
[1] الحيوان، 1/53.
[2] (الأنفة الثقافية): مصطلح سكه د. عبد الله البريدي. انظر: “الأنفة الثقافية” بوصفها انعكاسًا ومقياسًا لـ”التحيّز”، ورقة مقدمة لمؤتمر حوار الحضارات والمسارات، القاهرة، 2007م.
وكما دعا إليه البريدي فإنه قد حرص على تمثّله في كتبه وأبحاثه، انظر: ابن تيمية فيلسوف الفطرة، مبحث الأنفة الفلسفية، ص١٩ وما بعدها.
![]()
![]()