العقلُ وعاءٌ، واللسانُ مِغرفتُه.
والعقل مَلِكٌ مُدبِّرٌ، واللسانُ رسولُه وتَرجمانُه.
فما حُشِيَ العقلُ بشيءٍ إلا وفَلَتاتُ اللسانِ تُظهِرُه، ولا قَصَد مَقصدًا إلا وتَصاريفُ الكلامِ تُبيِّنُه.
ألا ترى المجنونَ والنائمَ والرضيعَ والحيوانَ كيف -إذ حُجِبَت عقولُهم- تنطلقُ ألسنتُهم بما لا يُعقَل؟
وألا ترى العقلاءَ تتفاضلُ أحاديثُهم بتفاضلِ عقولِهم؟
أَوَلا يُعرَف بفضلِ كلامٍ على كلامٍ فضلُ عقلٍ على عقلٍ؟
وأنت إذا رأيتَ الطفلَ يتكلمُ بكلامِ الكبارِ عرفتَ أنه لم يُلهَم إلهامًا ولم يُولَد تامَّ الآلةِ، وإنما أُفرِغَ في عقلِه ما يُلائم ما سمعتَ من كلامِه، لا ما يُلائم سِنَّه وعادةَ أترابِه.
وكذلك الكبيرُ يتكلمُ بكلامِ الصغارِ فتعرفُ أنه سَدَّ بابَ عقلِه، أو فَتَح عليه ما لا يليقُ بمثلِه، فنَضَح بما فيه.
فإذا كان كلُّ كلامٍ حين يَلِجُ عقلَ متلقِّيه فإن لسانَه يُبديه، فلا غِنى لأحدٍ على أيِّ مِنبرٍ، وفي أيِّ مَحضَرٍ، مهما كان فنُّه وعلمُه، قارئًا أو كاتبًا، مُبينًا أو متبيِّنًا، وأيَّةً سَلَك= مِن تخيُّرِ ما يملأُ به إناءَ عقلِه، وما يُفرِغُه في وعاءِ قلبِه.
وما قيل: كيف أُصلِحُ من ذلك؟ إلا قيل: بالقراءةِ. فهي أصلُ ذلك كلِّه ومبدؤُه. هي مادةُ العقلِ، وحِبرُه الذي يَنفَدُ بانقطاعِها، ودليلُه الذي يَضِلُّ بضلالِها، وعَصاه التي يتوكَّأُ عليها ويَهُشُّ بها على خَطَراتِه.
فإن رأيتَ كاتبًا باهرًا ومفكرًا بارعًا وشاعرًا مُفلِقًا، فاعلم أن من وراءِ ذلك قارئًا جادًّا يأخذُ الكتابَ بقوةٍ.
والكاتبُ بكتابتِه يَعرِضُ عقلَه على الناسِ، فلا يكفيه أن يكتبَ الصوابَ ويقولَ الحقَّ من غيرِ أن يَعرِضَه بمِعْرَضٍ يُلائمُه ويُلبِسَه ثوبًا يُقانيه. فكم من كلامٍ حَسَنٍ حَجَبَه عن الناسِ ضعفُ نَسجِه، وقصيدةٍ رائعةٍ صَدَّ السامعين عنها سَماجةُ صوتِ مُنشِدِها!
فما تَزوَّدَ الكاتبُ بزادٍ من البيانِ الرفيعِ تأمُّلًا وتدبُّرًا وتخيُّرًا وحفظًا، إلا زيَّن ذلك كلامَه وحسَّن فصولَه وجُمَلَه.
فإن قيل: وما الغايةُ من ذلك؟ إذا كان ما يقولُه المرءُ حقًّا وصوابًا فستتلقَّفُه القلوبُ الواعيةُ والآذانُ الصاغيةُ.
فأقول: أرأيتَ لو أن طابخًا صَنَع طعامًا كأحسنِ ما أنت ذائقٌ، ثم جاء به وهو دَنِسُ الثوبِ مُنتِنُ الريحِ في آنيةٍ صَدِئةٍ وعلى مائدةٍ سَهِكةٍ= أكنتَ تشتهيه؟ وهل يُغنيه حينئذٍ حُسنُ لونِه وطيبُ طعمِه؟
فكذلك الفكرةُ الصائبةُ والحكمةُ النافعةُ والقالةُ السديدةُ، إن زُفَّت بثوبٍ خَلَقٍ انصرفت عنها الأعينُ، وما يُدريها ما في هذا الثوبِ البالي من الكلامِ العالي؟
وما قيل: كيف أُصلِحُ من ذلك؟ إلا قيل: بتحفُّظِ أشعارِ العربِ وخُطَبِها والنسجِ على منوالِها. ولا تكاد تسمع نصيحة من غير هذا القبيل.
وهذا حقٌّ.
لكني رأيتُ الناسَ يَقصِدون السَّواقيَ ويَتركون البحرَ، ويستنزِفون الثِّمادَ ويُهمِلون الغِمارَ، ويَعرفون الفروعَ ويَجهلون الأصولَ.
أعني النظرَ في خيرِ كلامٍ وأبينِه، وأعلاه وأفصحِه، كلامِ اللهِ جلَّ جلالُه.
فقد حُجِب كثيرٌ منهم عن الانتفاعِ ببيانِه من جهتين:
الأولى: من جهةِ جلالتِه وعظمتِه، فاعتقادُنا أنه كلامُ اللهِ تكلَّم به سبحانَه، وأنه مُعجِزٌ لا يُدانيه كلامُ بشرٍ= ضَرَب علينا سُرادِقَ المهابةِ، فلا ننظرُ إلا في معانيه الواعظةِ ولا نتدبَّرُ إلا في ترغيبِه وترهيبِه، ولا نتأثَّرُ إلا بوعدِه ووعيدِه.
وكلُّ ذلك حقٌّ واجبٌ، لكنَّ في ألفاظِه وتراكيبِه مثلَ ما في معانيه من حقِّ النظرِ والتأمُّلِ.
الجهة الثانية: الاعتياد والإلف. فصار القارئُ يقرأُ منه أحرفًا لا يَعقِلُها، والحافظُ يحفظُه ولا تجدُ لمحفوظِه أثرًا بيِّنًا في لسانِه وبيانِه، لأنه شُغِل بطلبِ إقامةِ لسانِه وتحسينِ بيانِه في غيرِه، مما ليس بأَولى منه.
فترى من إذا خطَب قال: (يَغفَل)، مع أنه يقرأ (لو تَغفُلون)، ومن إذا حدَّث قال: (لا تَعجِز)، مع أنه يقرأ: (أَعجَزتُ)، ومن إذا كتب قال: (حَرِصتُ، ولا تَحرَص)، مع أنه يقرأ: (ولو حَرَصتم، إن تَحرِص)، وغيرُ ذلك كثيرٌ.
وأَمَجُّ منه في الأسماعِ وآذى للنفوسِ من إذا كتب كتب بعربيةٍ شَوهاءَ هزيلةٍ، صحيحةِ الظاهرِ، عليلةِ الباطنِ، عربيةِ المظهرِ، أعجميةِ المخبَرِ.
فأين أثرُ أبينِ كلامٍ وأعلاه؟
ولولا ضيقُ المقامِ لسردتُ لك أمثلةً لبلغاءَ استمدُّوا بلاغتَهم أولَ ما استمدُّوا من القرآنِ، ولرأيتَ كلامًا أضاءت أقمارُ القرآنِ في نحورِه، وسَطَعت أنوارُه في سطورِه.
وما قرأتُ كلامًا، عاليًا كان أم نازلًا، ثم تلقَّتني في تضاعيفِه لفظةٌ قرآنيةٌ، إلا طَعِمتُ منها حلاوةً تعمُّ ما سبقَها ولحِقَها من كلماتٍ.
وإنَّ لِجواهرِ القرآنِ بريقًا لا يخفى، ولو أخذتَ منها أقلَّ لفظةٍ -وإنَّ قليلَها لَكثيرٌ- ودسستَها في الكلامِ الكثيرِ!
فكيف بمن أخذ من لُبِّ ذلك، فتملَّأ من بيانِه وجعلَه حِبرًا لمِدادِه، ومثالًا لكلامِه، ومنوالًا لنَسجِه؟
فأقول: إذا كان يُوصى مَن أراد الانتفاعَ بمواعظِ القرآنِ وأحكامِه بأن يُعيِّنَ لكلِّ ختمةٍ يختمُها موضوعًا يستصحبُه عند تلاوتِه فيجذبُ بمغناطيسِه من ظاهرِ الكلامِ وباطنِه ما يتصلُ بموضوعِه هذا، لأنه أجمعُ للذهنِ والقلبِ من طلبِ الانتفاعِ بعمومِ معانيه في قراءةٍ واحدةٍ=
فلتكن أيضًا لك ختمةٌ تطلبُ فيها الانتفاعَ ببيانِ القرآنِ وبلاغتِه وسموِّ بيانِه، وتذوُّقَ حلاوتِه وطلاوتِه، كأن تقصِدُ فيها أن تختارَ -وكلُّ كلامِ اللهِ مختارٌ- من الألفاظِ والجملِ ما يحسُنُ أن تَدُسَّه في تضاعيفِ كلامِك، وتُزيِّنَ به خطابَك، وتستخرِجَ من الأساليبِ ما تنسِجُ على منوالِه وتصوغُ على مثالِه، وأن تتأمَّلَ في تراكيبِه وأوضاعِه وجُمَلِه وفصولِه، وتُقلِّبَها على لسانِك وتتذوَّقَها تذوُّقَ المتلذِّذِ، وتتطعَّمَها تطعُّمَ المستعذِبِ.
وأنا لك زعيمٌ إن صدقتَ وأخلصتَ بأن يُفتَحَ لك بابُ انتفاعٍ أعظمَ -إن شاء اللهُ- من انتفاعِ مَن تدبَّرَه غافلًا عن حلاوتِه وطلاوتِه، قاصرًا عن إدراكِ معجزِ بيانِه عند تلاوتِه.
واللهُ ينفعُني وإياك.