في قراءتي المتواضعة لتاريخ الأديان والأفكار وجغرافية المذاهب والنحل والملل، يتسلل إليّ شيء من التصور الآتي:
وهو أن تقديس الذوات وتأليهها يميل تجاه الشرق غالباً، وتقديس الأفكار وتأليه المذاهب غالباً ما يكون باتجاه الغرب، فالعقلية الشرقية تميل إلى التمركز حول الذات، والانطلاق منها في بناء الثقافات والحضارات، وهذا أخذ أشكالاً مختلفة في تاريخ الشرق، منها صناعة المستبد الإله ، وطاغية كوريا الشمالية في أقصى الشرق هو امتداد لهذه الظاهرة التاريخية، ونجاح التشيع الاثني عشري في العراق وامتداده شرقاً من أسبابه وجود هذه القابلية، ولذلك كان الخميني ذكياً حين ابتكر ( إمامة الفقيه ) لإخضاع الناس وإحكام السيطرة عليهم ، ونجاحه إنما تم بتحويل تقديس (الإمامة ) التي تحولت فيما بعد اختفاء الإمام الثاني عشر إلى ( فكرة)، ثم أعادها الخميني إلى تقديس ( الذات ) بإمامة الفقيه!
وتاريخ الفرس الديني خصوصاً والشرق عموماً يؤكد أن قابليتهم لتقديس الذوات أكثر من قابليتهم لتقديس الأفكار ، فهم نزَّاعون إلى تأليه الذوات ، كما يظهر من تأليه المانوية لماني ، والبوذية لبوذا ، والزرادشتية لزرادشت ، وهي من أقدم الأديان الفارسية ، وتتركز على تعظيم عناصر الطبيعة، ومن أعظمها عندهم الشمس كما هو معروف ، كما لا يخفى تقديس الهندوسية للبقر والقرود!
وفكرة النعمة الإلهية على الحاكم وأنه لا ينتصر إلا نقي العرق، مترسخة في العقلية الفارسية، حتى عده المؤرخ الإيراني كوما كاتزيان شرطاً أساسياً في الحاكم ليخضع له الجميع، والكسراوية أبرز التمثلات التاريخية لهذه العقيدة الفارسية!
ومن أجل هذا ترى شعوب الشرق أكثر قابلية للتصوف الغالي، الذي يكون فيه المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله، والصوفيةُ فرقةٌ تخيط عقائدها بالتجريد وتنقضها بالتشخيص!
وأما الغرب فهم نزاعون إلى تقديس الفكرة، وما حضارتهم إلا مجموعة من الأفكار، وليلاحظ أن ذلك تطور عنده حتى أعلنوا موت الإنسان (عدمية الذات)، وقد اصطبغت مذاهبهم الفكرية منذ (اللوغوس) بالتجريد الخالص، وأصبحوا يتحولون من فكرة إلى فكرة، ومن مذهب إلى مذهب، في غيبة عن الذوات، إلى أن غدت الأفكار عندهم بمثابة الأصنام!
تقديس الغرب للفكرة أدى بهم إلى تأليهها، فالغرب اليوم يعبد الهوى، ويعبد المال، ويعبد الحياة، ويعبد اللذة، والمفارقة أنه في المحصلة النهائية يعبد المادة المجردة من المعنى، أي من الفكرة!
وبناء على ذلك يمكن اعتبار تمثال (الحرية) في الغرب، والحرية فكرة، مقابلاً لتمثال (بوذا) في الشرق، وهو يمثل تقديس الذوات!
وأما وسط العالم من العراق إلى مصر، ومن أعالي الشام إلى يمن الجزيرة العربية، وهو مركز الحضارات ومهبط الرسالات، فقد استجمع تقديس الذوات وتقديس الأفكار، وامتزجت فيه الصفتان جنفاً وحنفاً، وغالباً ما يتسم المركز بتقاطع الأفكار، واختلاط المذاهب، وتلون الاتجاهات، شأن ذلك شأن المناخ الذي يعتدل كلما قرب من خط الاستواء، ويتجمد كلما بعد عنه، وقرُب من أطراف العالم، ولعلّ هذا يفسر حكمة أن تكون هذه المنطقة هي منبع الرسالات السماوية، لوجود القابلية للاتزان والاعتدال بين تقديس الذوات وتقديس الأفكار!
وسط العالم إذاً هو ميزانه الذي ترى فيه الأفكار مجسدة والذوات مفكرة ؛ على اختلاف في تقدير ذلك واضطرابه عند قوم، واتزانه لدى آخرين!
أقول إن هذه ملاحظة قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة، ولا أحبذ تحويلها إلى مبدأ تفسيري، أجري عليه الظواهر دون مراعاة لعوامل أخرى دينية واجتماعية وسياسية ، لئلا نقع في ما يخالف الموضوعية من الإسقاط المذموم، والواحدية السببية، والتعميم المجحف، والانتقائية المقصودة!
لكن هدفي من كل هذا أن أصل إلى المنهج الحقّ في مراعاة التوازن بين الذات والفكرة، إن كان يصح النظر إليهما منفصلين، إذ العلاقة بينهما تشبه العلاقة بين اللفظ والمعنى، ترى ما بينهما من التلازم ما لا يصح أن تتصور لأحدهما وجوداً بدون الآخر، ولذلك لا بدّ من مراجعة دقيقة لما يشيع بين الباحثين من الفصل الحاد بينهما، للحد الذي يجعلهما طرفي نقيض، وفي هذا السياق تراجع المقولات التي عززت هذا التصور التجزيئي، كالحكمة القائلة بأن : العظماء يتحدثون عن الأفكار، والمتوسطون يتحدثون عن الأحداث، والصغار يتحدثون عن الأشخاص، فليس هذا على إطلاقه؛ فالقرآن قد تحدّث عن الأشخاص، وعن الأحداث، وعن الأفكار ، ووصفها كلها، فهذا تجريد لما لا يمكن تجريده، فالفكرة أحياناً تعبر من خلال شخص، والقول الواحد يقوله محقّ ومبطل، والعبرة حينئذٍ بسيرة الشخص وطريقته ومجمل آرائه، كما يقول ابن القيم رحمه الله.
وإرسال الأنبياء – عليهم السلام – تجسيد لضرورة تجسيد الأفكار، فالنبي معصوم في أقواله وأفعاله، فيلبي هذا حاجة النفس في وجود القدوة الأعلى الممثلة للدين ، وفيه بيان معنى الإمكانية البشرية، ومن هنا نفهم قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي )، والسّنة تشمل القول والفعل والإقرار.
وقد أعلن المشركون علة عدم استجابتهم للرسول بكونه بشراً مثلهم؛ كما كان هذا منطق الذين من قبلهم، كما قال فرعون: { أنؤمن لبشرين مثلنا} ، كذلك قال المشركون : { فقالوا أبشراً يهدوننا } ، وكذلك كان حجة أكثر المكذبين : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً}، كأنهم يستعظمون على بشر مثلهم صفة الرسالة، وسمة العصمة، فردّ عليهم القرآن ببرهان قاطع وحجة بالغة، فقال: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً }، فأشار إلى برهان محكم، وهو أن إرسال الرسل من نوعهم هو منّة وفضل من الله؛ “للتَّمكُّن من المُخالَطَة؛ لأن اتِّحاد النوع هو قِوامُ تَيسِيرِ المُعاشَرة، قالَ تَعالى: { ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا } ، أي: في صورة رجلٍ ليُمْكنَ التَّخاطبُ بينه وبين النّاس”، كما يقول ابن عاشور.
فكمال الرسالة من كمال مرسلها، ومن عصمة رسولها، وهو بهذا يتمثل حقّ التمثل، ولا يخرج عن طوق البشر في تشريعاته وآدابه، وهو بعيد كل البعد عن المثاليات التي لا تستند إلا إلى الخيال والأوهام!
ولذلك تجد القرآن في أم كتابه، يدعو إلى اتباع الصراط المستقيم، وهذا تجريد: { اهدنا الصراط المستقيم}، ثم يجسد هذا الصراط : { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، وفي هذا ما فيه من إمكانية التمثل، والتحفيز إلى الانضمام إلى أهل هذا الصراط، وهذه صورة من صور القرآن في مراعاة التوازن بين الفكرة والذات.
ونجد صورة عجيبة أخرى، ينحو أسلوب القرآن إلى الإخبار عن الفكرة الخيرة بالذوات التي عملته، فيقول:{ولكنّ البرّ من آمن بالله}، عرف البر بعامله، وهذا تجسيد في أعلى درجة من درجات التمثيل لصفات البرّ المذكورة، وفي هذا تصوير لحيوية النموذج وواقعيته، كما فيه تكريم له حيث جعله البر نفسه، وكل هذه المزايا تزول بتقدير بعض المفسرين: ولكن البر برّ من آمن !
وصورة قريبة من هذا حين يقابل بين صنفين، صنفٌ يعبر عنه بالصفات المجردة، وصنف يعبر عنه بالصفات المجسّدة، ويجعل التجسيد في الصنف المحمود، في قوله: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله }، فلا عبرة في هذا الموضع لمن يفضل التعبير عن الأفكار المجردة عن أشخاصها، كأنه يرى العدل وعين الميزان في اطراد التجريد!
إنما يمكن استنباطه من طريقة القرآن الكريم في تعذر فصل الذات عن الموضوع، أو تجريد الفكرة عن متمثلها، وأن ذلك الفصل لو حدث فإنه يقع معه الخطأ في التصور والحكم؛ وذلك هو المنهاج الحق في تقويم الآراء والأشخاص معاً !