طالب العلم والحلول العاجلة

من الأمور التي تلفت الانتباه وتستدعي الإنصات العميق، تلك الحكايات التي تروي البدايات في طلب العلم، والخطوات الأولى نحو الإبداع، سواء في التأليف العلمي أو في الفنون النثرية والشعرية.
هذه الحكايات تختصر تجارب متنوعة وخبرات متعددة، رغم اختلاف البيئات والغايات وتنوع التحديات، ومع ذلك تظل بدايات الانطلاق تحمل قاسماً مشتركاً، وبنية واحدة بين الجميع: انطلاقة بسيطة مشوبة بقلة الخبرة واندفاع كبير.
وأمّا النهايات فتأبى أن تتشابه؛ إذ يتباين السائرون على هذا الطريق، فتختلف النهاية باختلاف التعامل مع ما بعد نقطة البداية، فشتان بين من يعدها بداية يتبعها تطور وتصحيح مسار، واستفادة من معارف متجددة، وأخطاء سابقة، واستثمار توجيهات، وآخر حقق مراده بتجاوز النقطة وعاش محتفيا بما حققه فبدايته نهايته، يرفض التطوير، ويكفيه الدخول في زمرة طلاب العلم، أو من المعدودين من طائفة المبدعين، وثالث وجد الطريق يتطلب التطوير المستمر والتعلّم الدائم فترك الأمر بالكليّة، واختار طريقًا آخر!
الإنسان بطبيعته عجول، يتمنى تحقيق الغاية بمجرد التفكير فيها، والوصول إلى الهدف عند خطواته الأولى في سبيله، تلك الخطوات التي غالبا ما تكون مختلطة بالعثرات!
وقد وصفه خالقه بهذه الصفة (خلق الإنسان من عجل) وقال تعالى( وكان الإنسان عجولا)، والعجلة مظنة الزلل، وداعية للخطل، وهي -وإن كان هذا وصفها في الأمور كلها -في طلب العلم والبناء المعرفي أشد.
فطبيعة التأصيل العلمي، وتحقيق التمكّن فيه يتطلب التريث، والتأني في أخذه، فالبناء العلمي ليس سماع معلومة، أو حفظ مسألة، أو قواعد يكتفى بالنظر فيها، والمرور عليها، فهذه قد يتحصل عليها المتعجّل، وينجزها غير المتريث، والساحة العلمية تتسع لهؤلاء وغيرهم من محبي العلم، والمستمعين له، والمستمتعين بالحديث عنه، والمشتغلين عنه بما يحتفه من أخبار.
و الإشكال في تصدّرهم، وفي ظنّهم أن هذا هو العلم ليس من ورائه شيء، فيغدو حاله كحال ابن جني العالم اللغوي المعروف في أول أمره حينما تحصلت له بعض المعارف،
فمر الفارسي عليه وسأله بعض الأسئلة العلمية والناس حوله فلم يحر جوابا، فقال له: “تزببت وأنت حصرم” كان هذا الموقف درساً أعاد ابن جني إلى طريق العلم الحقيقي، حيث لازم شيخه حتى وصل .
كم من متعجل ظن أنه بلغ الغاية، فتصدّر قبل أن يستوي بناؤه. ومثل هؤلاء كثر في الساحة العلمية، ينشغلون بالمظاهر دون الجوهر، فلا يدركون أن العلم الحقيقي أبعد من ذلك بكثير، وأين نجد لكل متعجل مثل أبي علي الفارسي، وإذا وجدناه، هل يملك المتعجل عقلا كعقل ابن جني الذي تدارك أمره وصحح مساره؟
العلم بحرٌ لا تُدرك أعماقه إلا بالتأني. فهو ليس مجرد حفظٍ للمسائل أو ترديدٍ للمعلومات، بل هو فهمٌ وإدراك، وبناء للتصورات، وربط للفروع بالأصول، واستثمار للأدلة والشواهد.
إنه ملكة تُنمى بالتفكير والتأمل، وحلٍّ للإشكالات، وتجديدٌ للمعارف لتتناسب مع السياقات المعاصرة، وهذه عمليات متراكمة مترابطة لا تنقاد لمتعجّل، ولا تلين له، وكانت العرب تقول:( الرشف أنقع) بمعنى أن الشراب الذي يترشفه الضمآن رويدا رويدا أقطع لعطشه وخير له من العبّ وإن طال عليه.
إنّ طلب العلم رحلة تتطلب صبراً يليق بعظمته، وسعياً مستمراً لا يرضى بالقشور. العجلة فيه غواية وإن تلمّس في أولها رشدًا، والتأني هو السبيل الآمن نحو بناء علمٍ راسخٍ متين، وعلى طالب أن يلجم أهواء النفس التي تزين له الاستعجال بدعوات من مثل: ازدياد في الخير، وحاجة البيئة العلمية، وغيرها مما لا يتطلب الاستعجال المذموم الذي يفسد أكثر مما يصلح، ورب عجلة تهب ريثًا، وقد قالوا: أسرع تُبطئ.

Loading

أ. د مقبل بن علي الدعدي

تفعيل الإشعارات تفعيل تجاهل