الانفعال ردّ فعل عاطفيّ، كثيف في الغالب، يتزامن مع تغيرات نفسيّة أو جسميّة للفرد، ويكون إيجابيًّا أو سلبيًّا؛ فالانفعالات تتفاوت في شدّتها وحدّتها، بين القوة والضّعف، والسّرور والألم، وتصنّف إلى انفعالات سارة كالفرح والحُبّ، وانفعالات غير سارة كالغضب والحزن، مما يدل على أنّ السرور أو الكدر، والتّقبل أو الرّفض، والاقدام أو الاحجام أساسي للانفعال.
والأسقام آلام تخللت حياة البّشر، ونزلت ساحة الشّعراء، وكلّ تفاوت في استقبالها؛ لأنّ الألم الجسديّ يؤثر في أحوال النّفس، التي تسجل انفعالات متفاوتة بأساليب مختلفة. فالشّاعر المريض الذي ذاق مرارة الألم؛ يعيش متذبذبًا في انفعالاته، لا يركن إلى الاستقرار إلا ويحاصره القلق، ولا يستكين بالانشراح إلا ويوقظه الحزن، وقد اتخذ الشّعر وسيلة للتعبير عن كلّ ذلك؛ فخرجت قصائده متفاوتة في موقفها من المرض؛ لأنّ الانفعالات التي تتمثّل في قصائد الشّعراء تكون استجابة لمثيرات داخلية أو خارجية متغيرة، فعدم الشّعور بالأمن الذي ينتاب الشّاعر المريض، يولّد لديه الخوف والقلق والضّجر، في حين أنّ الشّعور بالرّاحة النّفسيّة يولّد لديه الرّضا، والتّفاؤل، والأمل. وتتغير هذه المثيرات في درجتها، فتُحْدث تغيّرًا في الانفعالات والشّعور، وقد ينقلب الشّعور بالحزن إلى شعورٍ بالرّضا، والشّعور بالتّفاؤل إلى شعورٍ باليأس والتّشاؤم. وقد يتطوّر فيكون الحزن أوله، واليأس ثانيه، ثم الإحباط والاستسلام تاليه، وكل ذلك تابع لتغير الحالة النّفسيّة للشّاعر المريض؛ وبهذا تكون الانفعالات المختلفة في قصائد المرض، متوزعة بين انفعالاتٍ استهوائيّة سلبيّة وأخرى إيجابيّة.
وفي تجربة الشّعراء مع المرض احتلّت الانفعالات الإيجابيّة حيزًا أقلّ؛ حيث ظهر عدد من العواطف الفاعلة كهوى الاستعلاء والتّضرّع والأمل والصّبر والرّضا. والاستعلاء يُعرف في المعجم بالارتفاع، حيث استَعْلَى الشّيءَ: رَقِيَهُ وصَعِدَهُ. واستَعْلَى فلانا، وعليه: قهره وغلبه. واستَعْلَى حاجتَه: ظهر عليها. ويعدّ من الأهواء الانفعالية المستبعدة؛ فالمرض مرساة تجرّ الشاعر المريض إلى قاع الحياة، إلا أن من الشعراء من استعلى على الدّاء، بعزمه ورغبته في تجاوز الوجع، وهذا ما نجده عند أحمد الصافي النّجفيّ في قصيدة (بين الواقع والطموح):
من السُّقْمِ ما حققتُ بعض مطامعي | فأفرغتُ في شِعْري المُنَى والمطامعا | |
وكمْ سَحَقَتْ نفسي تفاهةَ واقعي | لتسموَ قولًا، أو تهزَّ مجامعا | |
فلي واقــــــــــــــــــعٌ قِزمٌ يسوء نواظرًا | وقوليَ عملاقٌ، يَرُوعُ المسامعا |
فالذّات الاستهوائيّة تمتلك المعرفة والرّؤية، وتعلم أنّ تغيير واقع الجسد الخاضع لسلطة المرض ليس في مقدرتها؛ لذا عمد المرسِل (هوى الاستعلاء) إلى تحريك الذّات الهويّة نحو موضوعها القيميّ/ التّجاوز والارتقاء، ليُوصل من خلال اتصال الذّات بموضوعها إلى المرسَل إليه (المجتمع)؛ أهمّية الجوهر على الجسد الممثِّل للقشرة الخارجية التي لا تعكس حقيقة الذّات، لكن هوى الاستعلاء الذي أعان الذّات على اتصالها بقيمتها، وجد عائقًا متشكلًا في تفاهة الواقع وتقزّمه التي تحفل بالقشور والمظاهر السّطحية، وقد استند استعلاء الذّات الهويّة على ملكة الشّعر التي حمّلها الشّاعر أمانيه ومطامعه، وحقق بها تساميًا وإصلاحًا في المجتمع.
كما نجد الاستعلاء على المرض يتشكّل بصورةٍ مختلفةٍ عند بهاء الدّين الأميريّ الذي قابل المرض بالابتسامة، وتجاوزها إلى المزاح:
قالوا: عليلٌ، فابتسمتُ والعزمُ فوق ذُرَى النُّجومِ |
ورحتُ أُمْعِنُ في المِزاحْ تـــَـــرُودُهُ هِمَـــمُ الصِـــــحَاحْ |
فهوى الاستعلاء دفع الذّات الهويّة نحو تجاوز الواقع الذي ذكّرها به قول القائلين ( قالوا: عليلٌ) فاتخذتْ الابتسامة والإيغال في المزاح جسرًا للعبور، وقد ساعدها على اتصالها بموضوعها القيميّ/ التّجاوز، ما تملكه من عزم متطاول فوق ذُرَى النّجوم، لا تروده إلا همم الصحاح، وهو بذلك يستعلي على الدّاء الذي أوهن الجسد، وعلى المستنقصين له بعلّته، حتى يصبح بعزمه متساويًا مع همم الصحاح في أجسادهم، وهذا الاتصال بين الذّات وموضوعها يوضح للمجتمع قدرة الهمّة العَلِيّة على التّغلب على كل العوائق التي تقف بين الذّات ورغباتها.
أما محمود درويش فغرّد بتفاؤله واستعلائه على الدّاء في “جداريّة”، فهوى الاستعلاء جعل الذّات راغبة في التّشكّل بالكيفية التي تريدها، فحينًا تريد أن تكون فكرةً، وحينًا طائر الفينيق، وأخرى شاعرًا أو كرمة، وأولى رغباتها للاستعلاء على المرض والألم أن تصير (فكرة):
سأصيرُ يومًا ما أُريدُ
سأَصيرُ يومًا فكرةً. لا سَيْفَ يحملُها
إلى الأرضِ اليبابِ، ولا كتابَ…
كأنَّها مَطَرٌ على جَبَلٍ تَصَدَّعَ من
تَفَتُّح عُشْبَةٍ،
لا القُوَّةُ انتصرتْ
ولا العَدْلُ الشريدُ
فالذّات الاستهوائيّة المدفوعة بهوى الاستعلاء، رغبتْ في الاتصال بقيمة الفكرة، لكنّها قيمة مستقبلية مجهولة الموعد (سأصير يومًا) وهذا يقلّل من يقين الذّات بقيمتها، غير أنّ التّحول في الصيرورة المستقبلية ينقذ الأمر؛ لأنّه يُعزز الارتباط بين الذّات والموضوع قليلًا، كما أنّ التخصيص في النّكرة بإضافتها إلى( فكرة) أفاد وجود دائرة لما ستصيره الذّات المترقِّبة لتحوّلها بإحدى الاحتمالات أو ببعضها، وقد عمدتْ الذّات إلى إظهار تفرد قيمتها المرتقبة؛ فهي لن تصل من خلال الطرق التقليدية السّيف أو الكتاب ( لا سَيْفَ يحملُها إلى الأرضِ اليبابِ، ولا كتابَ..)، وإنّما ستكون كالمطر الهين اللّين الذي سيترك أثرًا في أكثر الأماكن صلابة (على جَبَلٍ تَصَدَّعَ من تَفَتُّح عُشْبَةٍ)، وحجتها في اختيار فكرة بطريقة مغايرة؛ هي ما تراه الذّات من فشل قوة السّيف وتشرد عدل الكتب.
وقد واصلت الذّات رغباتها برغبة جديدة:
سأَصير يومًا ما أُريدُ
سأصير يومًا طائرًا، وأَسُلُّ من عَدَمي
وجودي. كُلَّما احتَرقَ الجناحانِ
اقتربتُ من الحقيقةِ، وانبعثتُ من
الرمادِ.
فرغبة الذّات الاستهوائيّة الثانية هي التّحول إلى طائر الفينيق لتنبعث معه من الرّماد، لكنّ الرّغبة بدت عامة في بداية طلب الذّات لها (سأصير يومًا طائرًا)، غير أنّ وصفها حددها في أسطورة طائر الفينيق المنبعث من رماده، وهي رغبة تعبر بالأسطورة إلى الحقيقة؛ لأنّ الألم وقود البصيرة (كُلَّما احتَرقَ الجناحانِ اقتربتُ من الحقيقةِ)، فالذّات الهويّة تقترب من الحقيقة بمساعدة وجع المرض الذي يكشف لها وجه الحياة والأحياء، لكنها لا تكتفي، فتزيد رغبة أخرى إلى رغبتيها السابقتين:
سأَصيرُ يومًا ما أُريدُ
سأصيرُ يومًا شاعرًا، والماءُ رَهْنُ بصيرتي
لغتي مجازٌ للمجاز، فلا أقول ولا أشير
إلى مكانٍ. فالمكان خطيئتي وذريعتي
أنا من هناك “هـُـنـَا”يَ يقفزُ
من خُطَايَ إلى مُخَـَّيلتي
أنا من كُنْتُ أو سأكونُ
يَصْنَعُني ويَصْرعُني الفضاءُ اللانهائيُّ المديد.
فرغبة الذّات الجديدة تتجاوز الحقيقة المعروفة عنها الممثلة في شاعريتها، فهي ترغب في صيرورة جديدة للشعر، وكأنّ ما قدمته في هذا الجانب قبل مرحلة المرض مختلف عما سيكون من شعر بعدها، فهو شعر سيكون ذات يوم، شعر نقي في كل جوانبه، فلا حدود لغوية أو مكانية تعيق تحليقه.
أما آخر رغبات الذّات الهويّة فكانت كَرْمَةً:
سأَصير يومًا ما أُريدُ
سأَصير يومًا كرمةً،
فَلْيَعْتَصِرني الصيفُ منذ الآن،
وليشربْ نبيذي العابرون على
ثُرَيَّات المكان السُكَّريِّ!
فرغبتها في أن تصير كرمةً كانت لغاية ترجو أن تحققها في العابرين الحالمين، ولو كانت هذه الرّغبة على وجعٍ يمتد من الآن إلى أن تكون (فَلْيَعْتَصِرني الصيفُ منذ الآن)، والذّات الاستهوائيّة في كلّ رغباتها (فكرة، طائر الفينيق، شاعر، كرمة) تحقق هوى الاستعلاء، الذي يجعلها تتعالى على المرض وتتجاوز الواقع إلى فكرة الخلود التي تُبقي الذّاتَ صامدةً أمام فكرة الموت، وهذا ما يوحي به عنوان القصيدة الديوان (جداريّة)، ويؤكده تكرار (سأَصير يومًا ما أُريدُ) في مفتتح كلّ رغبة ومختتمها.
وهكذا نتج هوى الاستعلاء الإيجابي عن انفعال الذّات الاستهوائية بالألم الذي تعالت عليه، وارتقت فوقه، ولم تعلن خضوعها له.