نحن ناجحون!
من التهجّي إلى التأويل
تعرّفت على النجاح من هذه الجملة الاسمية التي كانت أوّل جملة تصافحني في الطريق إلى عالم النص، عالم الكلمات المرقومة بعناية بالغة على ورق صقيل له رائحة العالم الجديد.
أخذتني أمي إلى ابن خالي، أو دعت ابن خالي إلى بيتنا ليضع إصبعي على السطر ويقرأ:
نحن ناجحون من الصف الأوّل إلى الصف الثاني، ومن الصف الثاني إلى الصف الثالث، ومن الصف الثالث إلى الصف الرابع، ومن الصف الرابع إلى الصف الخامس، ومن الصف الخامس إلى الصف السادس.
بدا لي نسيج النص أشبه بمدرج يرتقي بي إلى أعلى، وحين بلغت الصف السادس شعرت بشعور خفي، أو كأنما سمعت بداخلي نداء خفيا يتصاعد إلى أعلى. نداء كان في ثوب طموح أو رغبة أو أمنيات تتلاحق مع السطور أن أعبر كما عبر عليها إصبعي بكل هذه السهولة، فمتوالية العدد من الصف الأول إلى الصف السادس تبدو مجرد خطوات لا تكلّف شيئا سوى حركة العبور القصيرة هذه التي تلاها ابن خالي على مسامعي ورددتها كما سمعتها.
كانت صورة الفتى التي تعلو النص تحت العنوان تماما تكشف عن ملامح وجه انطبع في ذاكرتي إلى اليوم على أنّه وجه النجاح. وجه جميل، في شخص فتى أنيق الملبس، شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر الخمول والكسل. كأنما كان جبريل قد تنزّل بالوحي في تلك اللحظة، ليلقي كلمة القرآن والقراءة الأولى: اقرأ.
قرأت فعبرت السطور وفي ذاكرتي وجه هذا الفتى أحملها معي كما يحمل الناطور مصباحه لينير به الطريق، وجه النجاح اللامع الصقيل، ومحيّاه الباسم الجميل.
على هذا النحو فهمت معنى النجاح، فصار يعني لي أن أجتاز كل العتبات والعقبات التي ألتقيها في الطريق، وربطت مفهوم النجاح، كما هو عند الكثير مثلي، بعدم التعثّر، ففزعت على إثر ذلك من الرسوب، وكان يلفظ في لهجتنا بما يفيد أنّه سقوط من علوٍّ شاهق. كان السقوط يحسب على صاحبه حتى عندما يتجاوزه في العام التالي. فلان سقط مرة، وفلان مرّتين، أما فلان فكان ينجح كل سنة بسنتها.
سكنتني عبارة “كل سنة بسنتها” التي تعني النجاح المستمر والمتواصل، وعدم التعثّر، فكان لهذا الشعور أثره في مسيرتي الدراسية، وفي فهمي للنجاح.
لاحقا فهمت أن النجاح لا يعني الاجتياز، ومن حسن حظي أن هذا الفهم الصحيح، في نظري، لم أصل إليه إلا متأخرا، لأن فهمي الخاطىء كان سببا في نجاحي، أعني في أن أحظى بوسم” كل سنة بسنتها”. عبارة سمعتها من أمي كثيرا تصف بها الناجحين في الدراسة فكانت وقود اجتهادي كلما شعرت بالخمول أو الانطفاء والتكاسل.
استطعت بالفعل أن أتمثّل نص “نحن ناجحون” كاملا، حققته سلوكا دراسيا وعبرت على السطور كما عبر إصبعي دون تعثّر وبلاتردد، ومرد ذلك، بعد توفيق الله، إلى هذا النص المحفّز الذي كان أوّل نص في كتاب الهجاء، فكان عتبة التهجّي الأولى التي لا تعني مجرد سطور أو كلمات، وإنما كانت بمثابة رحلة عبور وطريق معرفة واسع يلوّح لي بما وراء سطوره من عالم رحب ينطوي على مراحل مختلفة من التحديات الصغيرة التي ستكون بمجموعها رحلتي مع العلم والمعرفة.
فهمت، فيما بعد، أن النجاح أوسع من فكرة الاجتياز والترقّي من مرحلة إلى مرحلة، ومن مستوى إلى آخر، ولولا أن هذا الاجتياز وهذا الترقّي يساعد على العبور من تجربة إلى تجربة، لما كان له قيمة في بناء الإنسان، وعلى هذا النحو بدا لي أن النجاح مشروط بعمق التجربة، لا بمجرد العبور والاجتياز، فقد يكون عبورك فارغا من كل مضمون، وقد يكون اجتيازك حركة أفقية لا تمسّ المعنى الحقيقي للنجاح. النجاح الذي يعني أنك أوغلت في ذاكرة الأشياء وخضت سيرة التهجّي بكل ما تعنيه من تأمل وفهم وإدراك، بحسب ما يسمح به العمر وبحسب ما تتيحه القدرات والمهارات في التلقي.
لهذا أعود اليوم إلى قراءة هذا النص، فأعيد فهمه من جديد، وقد كان فهمي السابق صحيحا في زمنه، كما أعتقد بصحة فهمي اليوم بناء على فهم جديد للتهجّي. التهجّي الذي كان يعني القراءة الحرفية ابتداء بأصغر وحدة في الكلمة وصولا إلى تركيب الجملة في تمامها ثم العبور بها إلى ما بعدها، في حين أن التهجّي في منظوري الراهن يعني السبر والتأويل، أي قراءة أحداث الواقع قراءة تأويلية تتقصّى كل ما يحتمله المشهد من دلالات ثقافية أو اجتماعية أو معرفية، فيكون التهجّي بهذا المفهوم منظورا جديدا يتجاوز حروف الهجاء إلى معاني التهجّي الحاضر لنصٍّ قديم.
هكذا يبدو لي نص “نحن ناجحون” من زاوية حاضري، إذ أرى فيه ما لم أر من قبل. أرى هذا السلّم التعليمي في صورة مدخل أو بوابة واسعة للدخول، لا في عالم النص فحسب، وإنما للدخول في نص العالم حيث سألتقي في الطريق بأحداث هي تجارب، لا بنصوص مؤلفة من حروف الهجاء فقط، وكنت أعتقد في طفولتي آنذاك أنّي أتهجّى حروفا وكلمات للحاق بإصبعي التي تسبق الكلمة أحيانا كما يسبق الصوت الصورة في النقل المباشر بعيد المدى، ولم أكن إذّاك أعي أن هذا النص القرائي قد وضع بعناية في الدرس الأول من كتاب الهجاء والقراءة من أجل التهجّي بمنظوري اليوم لا من أجل الهجاء بالمنظور السابق الذي لا يتجاوز تأليف الحروف والكلمات وتركيب الجمل والعبارات.
غادرت هذا النص موغلا في كتاب القراءة من جهة، وفي أحداث المدرسة من جهة ثانية.
نادى معلم الصف الأول: من يستطيع تلاوة السور التي أخذناها عن ظهر قلب كاملة؟ ألقى سؤاله مشفوعا بجائزة لمن يفعل، ولأن جائزة المعلم تعني التفوق المختوم بالاعتراف والتقدير رفعت إصبعي، إصبعي التي عرفت الطريق بين الكلمات والسطور، ثم تلوت السور القصار جميعها فحيّاني المعلّم وأتحفني بفسحة استثنائية تحتوي على خبز وجبن. كانت هي الفسحة الحقيقية آنذاك حين تمضغ معنى النجاح والتميز بين الأقران في الفسحة الكبيرة التي تسيل بالطلاب من كل فصول المدرسة وتدلقهم جميعا في الفناء باتجاه المقصف المدرسي. كانت جائزتي وجبة صباحية لا يزال طعمها عالقا في ذاكرتي إلى اليوم.
اصطحبت النص معي، أو ربما اصطحبني معه أيضا، فكان رفيقا ملهما انفتحت لي من بين سطوره مدارج ومعارج عرفت بها لاحقا أن القراءة أعظم مفاتيح النجاح، والسعادة، والمعرفة، وأن “اقرأ” هي مفتاح العالم الكبير مثلما هي مفتاح النص، لا بالمعنى الاعتيادي المكرور، وإنما بهذا المعنى الذي نتهجّى العالم لنصل إلى رحابته وفضاءاته الواسعة.
وعلى ذاك السور، سور بيتنا النابت قريبا من سفح الجبل صاح أحد الديكة شامخا برقبته إلى أعلى فلمحت على الفور صورة الديك المطبوعة على نشيد صباحنا القديم في قسم الأناشيد من كتاب القراءة:
صاح الديك فوق السور/ كوكو كوكو بان النور.
بقي هذا المطلع عالقا يرنّ في أذني كما لو كان ديك الصباح يرسل نداءه من خلف بيتنا قبيل طلوع النور.
كان هذا النشيد نصا آخر أيضا أحتفظ بأثره العميق في نفسي، أثر جعل للصباح طعم الديكة التي تؤذن في أسماع الكون ما يجعل للحياة معنى التبكير، وكما يقول بشار: إنّ ذاك النجاح في التبكير.
وهذا بالطبع ما عقد صداقة وثيقة بيني وبين كتاب القراءة والأناشيد، الكتاب الأقرب إلى نفسي من الحساب وجدول الضرب، ربما لأن سيمياء العنوان كان له أثر نفسي عميق في الإقبال على حقل دون حقل، وليس سواء حقل يغمرك بالشعور، وحقل آخر لا يريك سوى الأرقام بكل ما فيها من جمع وطرح وضرب فلا يعزز لديك سوى الخلو من كل شعور والاستعداد إلى مطارحة القسمة والحساب.
امتد معي الشعور السلبي تجاه الأرقام إلى وقت متأخر، فلم أفق من هذا الشعور الكئيب إلا بعد أن أدركت، وفي وقت متأخر جدا، أن روح الأرقام تكمن في التجريد والوصول، تجريد العالم من سمنته وثوبه الفضفاض، والوصول إلى نواته وجوهره في الأعداد القصيّة حيث يكمن النغم وتحتفل الموسيقى بنفسها في مشهد راقص لا تتكلّم فيه سوى الأرقام في عالم خارج العالم.