ما للعِيس في سيرها تعدو؟

ما للعِيس في سيرها تعدو؟

من أكثر المشاهد أثراً في كتب التاريخ والرحلات الحجازية المقاطع التي تحدثنا عن تلك اللحظة التي تسبق الدخول إلى مكة والمدينة. ليست القلوب وحدها تهفو إلى لقاء تلك البقاع المباركة، بل يشارك الإنسانَ راحلتُه التي سرعان ما تنفض عنها غبار الجهد والعناء، فتصبحَ نشيطة تجد في خطوها شوقا إلى تلك الديار. وهذا أمر مشاهد يعرفه من جربه فعندما يسافر أحدنا سفراً بعيد الشقة، ثم يعود وهو لم يرَ أهله وأصدقاءه منذ زمن تتسارع نبضات قلبه كلما اقترب من المكان، ويجد أن المركبة كأنها تشاركه فتسرع معه، على أن الراحلة القديمة كانت ألصق بالإنسان وأعرف بإحساسه. ولقد خلّد لنا الأدباء عددا جيدا من هذه المقاطع النفسية المشرقة حين اقتربوا من تلك الأماكن فاستبد بهم الشوق، وطارت نفوسهم فطارت على إثر ذلك عيسهم وراحلتهم. ولا يمكن لنا أن نتحدث عن هذا الأمر دون أن نذكر رائية ابن جبير الباذخة التي يقول في مطلعها:

لعلَّ سراجَ الهُدى قد أنارا أقولُ وآنستُ بالليل نارا
كأن سنا البرق فيه استطارا وإلا فما بال أفْقِ الدّجى
فما باله قد تجلّى نهارا ونحن من الليل في حندسٍ

ثم يعرج على ذكر تلك الرواحل وأصحابها فينشد:

وجَاهَا فقد سبقتنا ابتدارا وكانت رواحلنا تشتكي
فعدنا نباري سراع المهارى وكنا شكونا عناء السُّرى
بلوغ هوىً تخِذته شِعارا أظنّ النفوس قد استشعرت

لم يكن ابن جبير وحيداً في هذا الباب، بل لا نغالي إن قلنا إن كل من كتب عن رحلته إلى الديار المقدسة ذكر شيئا مشابها لهذا الأمر، وتغَصّ الكتب بمثل هذه المشاعر سواء كتب ذلك نثرا، أو نظم شعراً، فمن ذلك قول عبد السلام الناصري في رحلته حين دخل مكة: “وفي ضحى السادس من ذي الحجة دخلناها بفرحة تكاد تطير منها القلوب فانجلى ما كان خيّم بها من الأحزان والكروب.” ويقول أيضا واصفا حال الركاب وهم مقبلون على المدينة المنورة: ” والركاب مع حلّ بها من العطش والجوع والغلاء التام والخوف، لم يبالوا بذلك من أجل ما خامرهم من الغرام بالقرب من الحبيبة المحببة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، تراني راكبا على دابتي أمسك لجامها فتجبذه من يدي جبذا علي مسرعةً نحو قباب سلمى وخيامها”. ويشاركه الوصفَ أبو سالم العياشي في رحلته فحين أقبل الركب على مدينة الحبيب ﷺ قال يصفهم: “ولم يعبأ الناس ولا إبلهم بما لقوا من شدة الحر في ذلك اليوم لشدة الفرح الذي استولى على المرح وإذا عمرت القلوب بالمسرات ذهلت الأجسام عما تلاقي من المضرات، وإذا تنغمت بروح القرب الأرواح، لم تبال بما حصل من المشقة الأشباح وأيّ مسرة أعظم من الدنو من دار الرسول؟”

لا شك أن للدنو شعورا فريداً لا سيما من ديار الحبيب أيّ حبيب فكيف بالرسول ﷺ؟ وفي هذا التشاكل العجيب بين الإنسان وراحلته ما يجعل الصلة وثيقة بينهما ؛ فهي تشاركه الشعور بالتعب والعطش، وتشاركه الشعور بالشوق فيخفق قلبها وتخفّ في سيرها حين تدنو من تلك الديار. ولذلك تعجّب العياشي في أبيات نظمها قال في مطلعها:

ومن قبلُ أعيت من يسوق ومن يحدو خليليّ ما للعيس في سيرها تعدو
بقبر رسول الله قد أصبحت تعدو أظن لها علما يقينا بأنها
كما جزعت بالأمس إذ مسّها الجهدُ لذلك لم تجزع لحرٍ أصابها

ويقول أبو علي اليوسي في قصيدة بديعة في نفس المعنى:

وجوهَ الفلا إن المحبين زوّرُ وزمّوا المطايا والطموا بأكفها
بها من عظيم الشوق يزجي ويزجرُ ولا تزجروها بالحداء فإن ما
وفاح لها منها خزامى وإذخرُ لقد أنست من جانبِ الغور لمحةً
تسيل بأعناقٍ وطورا تخطّرُ فطارت إلى ذاك الجناب فتارة
  • وهذا الطيران والإسراع الذي بالمطايا ليس إلا أثرا من آثار شوق راكبيها إلى تلك البقاع الطاهرة، فما إن تشعر قلوبهم بدنو المكان، وتلمح أعينهم علاماتِ الوصول حتى يحثوا المطايا حين اشتاقت قلوبهم، وربما علمت المطايا هذا الشوق فأسرعت –كما يقول اليوسي—دون زجر بالحداء إذ بها من النباهة وعظيم الشوق ما يكفي لأن تسرع وتسيل بأعناق وتخطّر. هذا وإنا نجد اليوم مقاطع للحجاج حين يقبلون على البقاع كيف تهتز أنفسهم، ويرفعون صوتهم بالحداء والنشيد، ثم تهتز الحافلات الضخمة وتجد في السير حتى يقفوا على تلك المعاهد فيحمدوا حين سراهم، ويلقون عصا تسيارهم ويمضون في طقوس رحلتهم الحجية.

Loading

د. حسن بن عبد المنعم السلمي