لا تنهض همّةُ الأديب على الكتابة إلا اذا اطمأنت نفسُه من وجود القارئ الذي يحسن تلقي النص الذي يكتبه ويعطيه من الرعاية ما يستحق؛ فإنَّ أثقل شيء عليه اذا كتب نصاً ونشره أن يحتفيَ الناسُ بأقل ما فيه من أفكار ومعانٍ ويعطوها من الرعاية والتأمل ما يزيد عن حقها، ثم هم بعد ذلك يمرون على مواطن إبداعه وذروة إنتاجه مرور الغافلين.
ومن هنا فإن الذين أخذوا بزمام الأدب والإبداع أخذَ الجادين المتمكنين؛ لا يبحثون عمّن يثني على إنتاجهم أو يكتفي بإبراز مجمل مقاصدهم -وإن كان هذا أمرٌ يفرحُ به الكاتب بلا شك- بل يبحثون في المقام الأول عمّن يفهمهم ويتوصل بفهمه إلى دقيق غاياتهم وعميق مقاصدهم ويفطن بعد ذلك إلى الوجوه التي يتميّز بها ما يكتبون.
وعلى القارئ من جهته أن يرفع مستوى تلقيه للمعاني ويزيد من قدرته الذهنية على الغوص إلى المعقد منها حتى يحسن للأدب ولنفسه قبل أن يُحسن للأديب.
فإن الناظر لا يقف حظه من النص الأدبي عند التزود بأفكار مجردة أو كلمات منمقة؛ بل هو بقراءته للنص العالي يزداد شعوراً إلى شعوره وعواطف -قد تكون جديدة- إلى عواطفه؛ فإن المجيدين من الأدباء يوْدِعون نصوصهم وأشعارهم من ثمار عقولهم وعميق خلجاتهم ما يرتقي بالقارئ ويثب به إلى شرفة من الوعي ربما أعوزته التجربة النفسية والخبرة الشعورية والحدة الذهنية لبلوغها فضلاً عن إدراكها.
وليس العقل المراد تحصيله هو العقل الذي قصاراه أن يدركَ الإنسانُ به المعاني الظاهرة مجردةً كما هي، بل المراد بالعقل العقل الذي فضيلتُه التمييز بين أمور ظاهرها التشابه وربما التطابق، والعقل الذي يتجاسرُ به الناظر إلى الأمور التي ظاهرها التباعد فيربط بينها بجامعٍ خفي لا يبلغه إلا الأفذاذ من ذوي العقول، وقد بعث الجاحظ برسالة لأحد الأمراء جمع فيها طائفةً من المعاني الدقيقة واللطيفة ثم قال في خاتمتها “وقد علمتَ أن في كثير من الحق مشبهات لا تستبان إلا بعد النظر، وهناك يختل الشيطان أهل الغفلة، وذاك أنه لا يجد سبيلاً إلى اختداعهم عن الأمور الظاهرة” فإن العقل الذي لا يميز بين المعاني الباطنة تجوزُ عليه كثير من المعاني وتتسلل إلى وعيه من غير أن يفطن لها فإذا هو يرى الرأي لا يعرف له مصدراً ولا علّة، وعجزه عن فهم الخفي من المعاني هو الغفلة التي ينتهزها الشيطان لاختداعه.
وكما أن إنتاج الأديب يتواضع بتواضع مطالب القارئ فإن القارء تتواضع مطالبه بتواضع ما يقرأ، فإن أساليب الكتاب وتراكيبهم إنما هي صورة لطرائقهم في التفكير والفهم، فمن يدمن مطالعة النصوص التي تجمع إلى رشاقة العبارة وجمالها جودة المضمون وحسن العرض؛ ستنتهي به كثرة تعرّضه لهذه النصوص إلى انعكاس حركة عقل الكاتب إلى ذهنه وإلى التأثر بأسلوبه فيصبح قادراً على التفكير والتحليل أثناء الكتابة وعلى بناء التراكيب التي تحمل داخلها البليغ من اللفتات الذكية والعميقة.
والكاتب الحاذق هو الذي يستحضر القارء الناضج أثناء الكتابة ليتقي به السفول بالمعاني والأفكار، فإن الأدب يضعف باشتغال الأدباء في الإتيان بما يناسب عقول المتواضعين من القراء وذائقتهم والتماس مواقع أهوائهم العارضة وشهوات فراغهم المتقلبة، واذا شاعت هذه النصوص في الناس صاغت ذائقتهم وهبطت بعقولهم وغيرت تصورهم عن الأدب بصورة خلاف حقيقته، فتجمد المعاني على السخيف من القول وتَضْمُرُ تطلعات العقول وآفاقُها ولا يردها على جادة الطريق إلا نهضة ناقدة تحيي ما حقه الخلود وتميت ما حقه الإغضاء.
وإضافة يحسن الوقوف عليها في هذا السياق؛ وهي أن قلة الألفاظ المستعملة في التعبير عن العلم تجعل المعاني تتزاحم على ألفاظ محدودة وضيقة، فإذا جمعت العبارة الواحدة معاني كثيرة ومتباينة فإنها تشوش على تفكير الكاتب والمتلقي معاً؛ إذ الذهن إنما يستدعي من المعاني أقربها وأيسرها وأكثرها استعمالاً مع هذه الكلمة، وتبقى المعاني البعيدةُ بعيدةً في ظلمات الوعي وشعاب الخيال لا يتوصل إليها إلا اذا استحدث لها عبارات وتراكيب لا يزدحم معها معاني أخرى تشغب عليها وتحول دون فهمها وإدراكها.
لذلك من تعود أن يعبر بكلمات نمطية فإنه مهما بلغ من العلم لن يوصل للناس ما يريد أن يوصله من العلم، فإن الخذلان لا يزال في تطاول على الكاتبِ ما بقي قاموسه محصوراً في كلمات لا يحسن غيرها، فإذا هو اجتمعت في نفسه معاني تربو على عباراته ثم أراد كتابتها عجز عن البيان عن كل ما في نفسه، فيكون ما يكتبُه أقل بكثير مما يعرف، وقد قال الجرجاني من قبل عن هذا النوع من الكتاب أنه “يستبين هدىً ثمّ لا يهدي إليه”.
ثم إن هناك مرتقى لو استطاعه الأديب لكان بيانه عسيّاً أن ينال أغراضَه ويؤثر في مطالعيه؛ وهو القدرة على الإيحاء والتنبيه إلى المعاني البعيدة التي ليس لها ألفاظ محددة في اللغة تعبر عنها؛ ذلك أن من الكلمات ما اعتاد الناس على إيارده في أغراض الهزل واللهو، كما أن من الكلمات ما اعتاد الناس على إيراده في موارد الجد والصرامة، فإن إيراد مثل هذه الألفاظ في سياق يخالف المعهود في استعمالها سيغض من جودة تلقي السامع لها وسيضيف إلى النص معنى غير مقصود عن طريق الإيحاء والتمويه، وفي هذا يقول محمد الغمراوي في كتابه النقد التحليلي: “إن مع الكلمات أجواء تنتقل معها في تداولها، كما للكواكب أجواء تنتقل معها في سبحها وتنقلها، فإذا علقت الكلمة ذات الجو بمدلول جديد علق به ما كان يحيط بها في استعمالها الأول من استحسان أو استقباح، وسرى ذلك إلى النفوس فتستحسن أو تستقبح من غير أن تدري لذلك سبباً”.
وشبيه بهذا قول الجاحظ عن احتيال بعض البلغاء في دس مقاصدهم خلف عباراتهم وفي تظاهرهم بخلاف حقيقتهم، إذ يقول عن تعمّد المُتكلّم تسميج كلامه ليخفي ذكاءه عن السامع أو ليتشبه بجليسِه بقلة الفطنة اذا كان جليسُه قليلَ العقل، وغرضه في ذلك مواساة جليسه ودفع الحزنِ عنه أو لغيره من الأغراض، يقول الجاحظ: “ويخلف الداهية كثيراً من أدبه، ويغض من محاسن منطقه، التماساً لمواساة خصمه في ضعف الحيلة، والتشبه به في قلة الفطنة [ثم يكتب كتابةً يتعمد فيها اللحن] ويتسخف في ألفاظه، ويتجنب القصد، ويهرب من اللفظ المعجب ليخفي مكان حذقه، ويستر موضع رفقه، حتى لا يحترس منه الخصم، ولا يتحفظ منه صاحب الحكم، بعد أن لا يضر بعين معناه، ولا يقصر في الإفصاح عن تفسير مغزاه” ثم قال مبيناً سبب لجوء المتكلم أو الكاتب إلى هذا الأسلوب: “وهذا هو الموضع الذي يكون العي فيه أبين، وذو الغباوة أفطن، والردي أجود، والأنوك أحزم، والمضيع أحكم؛ إذ كان غرضه الذي إياه يرمي، وغايته التي إليها يجري، الانتفاع بالمعنى المتخير دون المباهاة باللفظ، وإنما كانت غايته إيصال المعنى إلى القلب دون نصيب السمع من اللفظ المونق، والمعنى المتخير؛ بل ربما لم يرض باللفظ السليم حتى يسقمه ليقع العجز موقع القوة، ويعرض العي في محل البلاغة”.
ونطوي الكلام بعبارة شديدة الإيجاز ولكنها حقيقة بأن تكون في صدر الكلام كما أنها حقيقة بأن تكون في صدر كل كاتب حين يتهيأ للكتابة؛ وهي الحرص على اختيار اللفظ الذي يدل على المعنى وتجاهل اللفظ الذي قصاراه أن يدل على نفسه.