خطرات من قراءة كتاب الخصائص ورصد شيءٍ من خصوصية ابن جني في خصائصه

احلولك ما بيني وبين القلم بعد ودّ مبسوط ووشجية متّصلة واستبد بي الفتور وأقعدني عن الكتابة فأصبحت استثقل حمله وجريه ، فلولا من تحوطني رعايته وتهديني منارته وهو شيخي وأستاذي ” مقبل الدعدي ” وحثّه إياي على الكتابة وقوله لي متمثلا بمثل عامي ( أكمل لحية أبوك ) أي واصل ما ابتدأت به من أمر كتابة المقالات لما تجشمتُ الكتابة ولا لطخت يدي بالمداد ، لأني إذا تغلّبتُ على الفتور طلبني الشتات غرضا له ،وإذا رغبتُ في الكتابة استوحشتْ الفكرةُ عني وتوارتْ في فلاة لايُهتدى بمنارها.

فلما اعتزمت الكتابة بعد لأيٍ زامنَ أن شارفت على انتهاء قراءة كتاب ما ناسبَ جعل رحى هذه المقالة تدور حول قطبه إلا أني استُرهبتُ وأحجمت أن أكتب عن هذا الكتاب أو حتى أن أبدي انطباعا شخصيا عنه ، كيف لا وهذا الكتاب من الكتب التراثية التي باتت عمدة في بابها وأصبحت موردا لايكدّره الدلاء لغزارة مادته ، ومؤلفه من علماء العربية العباقرة الأفذاذ ، إذن فليغفر لي القرّاء والكِتاب ومؤلفه على اجترائي وركوبي مطية الخطر ، ومعذرتي في ذلك مع هول ما أجد هو أنني أشارككم ابتهاجي واحتفائي بتجربة قراءة هذا السفر العظيم بخطرات وإشارات تدل على علو كعب هذا الإمام وتنوع مادته وغزارتها بقلمه السيال المطواع مهما احتلكت المسائل غموضا وبعدت غورا ، ولا أزعم الإتيان بجديد ولا فائت لمعيد فكتابه قد تعاورته عقول العلماء من لدن بزوغ نجمه إلى وقتنا هذا من بين فاحص ومدقق باحثين عن درّه ونفيسه ، وإنني لأنقل لكم حقيقة ما وجدت من صدق مقولة ” تأليف المرء قطعة من عقله ” فهذا كتاب الخصائص الذي يمثل عقل ابن جني النافذ لأعماق اللغة ونظره الثاقب في بسط عللها ومقاييسها ، وقد نعت ابن جني هذا الكتاب لقارئه يخبره ما الفلك الذي يسبح فيه هذا الكتاب ومجاله الذي يجري فيه قال : ( إنما أفضى بنا إليه ذرو من القول أحببنا استيفاءه تأنسا به وليكون هذا الكتاب ذاهبا في جهات النظر إذ ليس غرضنا فيه الرفع والنصب والجر والجزم لأن هذا أمر قد فرغ في أكثر الكتب المصنفة فيه منه وإنما هذا الكتاب مبني على إثارة معادن المعاني وتقرير حال الأوضاع والمبادي وكيف سرت أحكامها في الأحناء والحواشي ).

ومادة كتابه كان لها حظا كبيرا من النظر والتحرير المبتدع والإشارات الدّالة على اتقاد خاطر المؤلف وحدّه عقله وطول باعه في حل المشكلات وكشف المبهمات ، واستظهر على ذلك بظهيرين هم في محل ثقة عنده ومطمأن من البر يستريح إليه أحدهما شيخه أبو علي الفارسي والآخر هو محمد بن العساف الشجري ، أما عن شيخه فقد كاد لايعقد بابا من أبواب هذا الكتاب إلا صدّره برأي شيخه ونبّه عليه في المبحث وأما الآخر الشجري فقد قال عنه ” قلما رأيت بدويا أفصح منه ” فكان يحتفي به ويلقي عليه مسائل في اللغة وكيفية نطق العرب بها ، قال عنه : ” قلت له يوما ، شغفا بفصاحته والتذاذا بمطاولته وجريا على العادة معه في إيقاظ طبعه واقتداح زند فطنته : كيف تقول : ” أكرم أخوك أباك ” فقال كذاك فقلت له : أفتقول : ” أكرم أخوك أبوك ” فقال : لا أقول ” أبوك ” أبدا ، قلت فكيف تقول : ” أكرمني أبوك ” فقال : كذاك ؛ قلت ألست تزعم أنك لاتقول ” أبوك ” أبدا ؟ فقال : أيش هذا ، اختلفت جهتا الكلام.
قال ياقوت في معجمه فهل قوله ( ” اختلفت جهتا الكلام ” إلا كقولنا نحن هو الآن فاعل وكان في الأول مفعولا فانظر إلى قيام معاني هذا الأمر في انفسهم وإن لم تطع به عبارتهم).

ومما استرعى انتباهي في كتابه استعماله شواهد عدّة لا لرأي شاذ ولا لتقرير حكم في مسألة ، بل لكشف معنىً أطلقه على بعض الأدوات مثل ” لا النافية للمنكر ” يقول عنها ” إنها تبنى معها فتصير كالجزء من الاسم ” فاحتاج أن يوضح لنا كيف تكون ” جزءً منها ” فجاء بشاهد لتوضيح معناه فقال:

خِيطَ على زفرة فتمَّ ولم
يرجع إلى دقة ولا هضم

قال ” وتأويل ذلك أن هذا الفرس لسعة جوفه وإجفار محزمه كأنه زفر فلمّا اغترق نَفَسه بُنيَ على ذلك ، فلزمته تلك الزفرة فصيغ عليها لايفارقها كما أن الاسم بُني مع “لا” حتى خُلط بها لا تفارقه ولا يفارقها وهذا موضع متناهٍ في حسنه آخذ بغاية الصنعة من مستخرجه.
وقد تعرض ابن جني لموضع الإدّغام فتناهت مقدرته وتمكنه في علم الأصوات فأخذ يفسر هذه الظاهرة منيفاً على غيره شاهقا ببيانه العالِ الذي يعينه على بسط تقريراته وعلله ، فخذ بنفسك في علل وتفاسير حديدةٍ لانتْ في يديه فأبرزها مجلوة مصقولة عما يشوبها.
قال : (قد ثبت أن الادغام المألوف المعتاد إنما هو تقريب صوت من صوت … ، ألا ترى أنك في قطَّع ونحوه قد أخفيت الساكن الأول في الثاني حتى نَبَا اللسان عنهما نبوة واحدة, وزالت الوقفة التي كانت تكون في الأول لو لم تدغمه في الآخر, ألا ترى أنك لو تكلَّفت ترك إدغام الطاء الأولى لتجشَّمت لها وقفة عليها تمتاز من شدَّة ممازجتها للثانية بها؛ كقولك: قططع وسككر, وهذا إنما تحكمه المشافهة به ، فإن أنت أزلت تلك الوُقَيفة والفترة على الأول خلطته بالثاني فكان قربه منه “وادّغامه” فيه أشد لجذبه إليه وإلحاقه بحكمه).
ولقد كان رحمه الله نصيرا للعلم والعلماء ذابّا عنهم ذائدا عن حياضهم وخير شاهد على ذلك انتصاره لإمام العربية سيبويه رحمه الله ممن أزرى عليه وتعقبه في مُثُل تُتبع فيها أُخذت عليه ، وكان ابن جني وهو العارف لحق العلماء يدحض حججهم ويبين معرة ما ذهبوا إليه في حق الإمام ويدحو ساحة الإعذار له مبرئا إياه مما تعقبوه فيه ولهذا عقد بابا في الجزء الثالث من الكتاب سمّاه ” باب القول على فوائت الكتاب ” فمهّد بعبارات تنبىء عن إجلال وتقدير لهذا الإمام ولاغرو فالعلماء تعرف قدر بعضها ومكانتهم في العلم قال : ( اعلم أن الأمثلة المأخوذة على صاحبه سنذكرها ، ونقول فيها ما يُدحض عنه ظاهر معرّتها لو صحّت عليه ، ولو لم تكن فيها حيلة تدرأ شناعة إخلاله بها عنه ، لكانت معلاة له لا مزراة عليه، وشاهدة بفضله ونقص المتتبع (له بها ) لا نقصه إن كان أوردها مريدا بها حطّ رتبته والغضّ من فضيلته).
ومما يحرص عليه ابن جني في تضاعيف كتابه طرد الملل والسآمة عن القارىء باستعماله طريقة يكسر بها جمود السرد ، إذ أنه بعد تقرير المسألة واطّراد قانونها يفترض لو أن سائلا يسأل أو معترض يعترض فيجيب عليه كعبارة ” وإن قلتَ ، وإن قال قائل وغيرها ” وغالب هذه الأسئلة والاعتراضات تكون عن شذوذات القاعدة أو لزيادة تقرير أو نفي احتمال يرد على ذهن المتلقي .
فقراءتك لكتاب ما سيما لإمام من أئمة العربية ليس أن تعرف ما احتوى عليه من أدلة وشواهد بأهم من نهجه ونظامه الذي يسلكها فيه فتلك الأدلة والشواهد تعاورها كثير من العلماء لأنها مادّة يُستنبط منها ، فمرورها بك سابقا ولاحقا واقع لا محالة ، لكن الغاية العليا أن تأخذ نفسك بمعرفة طرق إيراد هذه الشواهد وداعي استعمالها وكيف خلصَ لآرائه ونتائجه من خلالها فهذا إنسان عين الدربة والتمرس لصنع ملكة تكون لك إسفارا في سبيل العلم ، إذ أنك تفيد مما استجدتَ من فكره وعقله فتتسع لك بذاك المدارك فتصقل فكرك وتنفي عنه ما صدأ .
فرحم الله أبا الفتح عثمان ابن جني ففي كتابه عجب لاينقضي أكان من مادته أو أسلوبه ولكأنّك بحضرته يقرأ عليك كلامه وأنت مصيخ له ، فيطوف بك في رحاب العربية ما شئت من نحو وفقه لغةٍ وصرف ويستعرض لك شواردها وآوابدها ضامزةً في شِراكه ، وما أراك يا أبا الفتح يسمو بيانك ويتناهى ويكون ذا حلاوة إلا في مواضع التعليل التي لم تُسبق إليها وكنت ابن بجدتها وعذرتها ، ألأجل أن تُلين القلوب لعقل آرائك وعللك ؟، إذن فلتنَمْ قرير العين فخصائصك مرتع خصب وريانُ ملتف الحدائق أخضر لمن أخذه بقوة ورتّب فكره ومنطقه على منواله .

Loading

الكاتب: صالح بن مبارك الدوسري