الشَّغف برمضان ..

الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم ومن والاه.

أما بعد:

 فالشَّغَفُ في كلام العرب يُطلق على شدّة الحب والتعلّق بالشيء حتى يبلغ شَغاف القلب، أي: غلافه أو باطنه. جاء في معاجم اللغة وكتب التعريفات: الشَّغَفُ: هو إحراق الحبّ القلبَ حتى يبلغ شَغافَه، وهو غلافه. ويقال: شَغِفَ به إذا أحبّه حبًّا شديدًا، كما ورد في القرآن الكريم في وصف حبّ امرأة العزيز ليوسف عليه السلام:(قد شغفها حباً) [يوسف:30]، أي: بلغ حبّه شَغاف قلبها. وفي علم النفس يُعرّف الشغف على أنه: دافعٌ داخلي قوي يُحفّز الشخصَ للانخراط في نشاط مُعيّن بحماس واستمتاع، مما يجعله يستثمر فيه وقتًا وجهدًا.

فإذا تقرّر هذا المعنى، فإنّ السلف هم المعيار العملي والتطبيق الفعلي والنموذج التفسيري لهذا الشغف؛ حبًا للعبادة، ومسارعةً فيها، وأُنساً بها، وحرصاً على استغلال أوقاته المباركة في الطاعات. وقد تجلّت مظاهر هذا الشغف عندهم في ممارسات كثيرة؛ فمنها شغفهم بترقب دخول شهر رمضان؛ فقد كانوا “يدعون الله أن يبلغَهم رمضان قبل قدومه بستة أشهر”،

 ولا موجب لهذا الترقب والانتظار إلا الشغف فهو الدافع الداخلي لهذا الانتظار.

 وأما إذا دخل الشهر فانظر إلى حالهم في الاجتهاد في العبادات، واستلذاذ مشاقها. 

وأما حالهم مع القرآن والاجتهاد في تلاوته فهو القِدْح المُعلّى والحظ الأوفر، وأعظم ما بلغنا من صور الشغف بهذا ما جاء عن الإمام الشافعي أنه “كان يختم القرآن ستين مرةً في رمضان”، ومثله الإمام محمد بن إسماعيل البخاري – صاحب الصحيح – “يختم في رمضان في النهار كلَّ يوم ختمة”، ويقوم بعد التراويح كلَّ ثلاثَ ليال بختمة؛ فالشغف هو الذي يفسّر لنا هذه القدرة الخارقة، والقوة الروحية، وهو الذي يجيب عن تشكيك العقلانيين في مثل هذه الأخبار التي لا تستوعبها مقاييسهم  العقلية !!

و أمّا عن الجود والعطاء الذي هو شاقٌ على النفوس إلاّ من رزقه الله من الشغف بهذا الشهر ما يدفع به شُح نفسه؛ وهم في ذلك مقتدون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي “كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان”، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان)، وذلك أن جبريل-عليه السلام –(كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن”، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ بالخير من الريح المرسلة)، وكان ابن عمر رضي-لله تعالى عنهما- “يصوم ولا يفطر إلاَّ مع المساكين”، يأتي إلى المسجد فيصلي ثم يذهب إلى بيته ومعه مجموعة من المساكين، فإذا منعهم أهله عنه لم يتعشَّ تلك الليلة.

 وكان حماد بن أبي سليمان يفطِّر في شهر رمضان خمسَ مائةِ إنسانٍ، طيلة شهر رمضان” هو مسؤول عنهم وعن تفطيرهم، وكان يعطي بعد العيد لكلِّ واحدٍ منهم مائة درهم.

فالحاصل: أن يكون هذا الشغف في النفس هو حجر الزاوية في حصول كمال الاستغلال لهذا الشهر الكريم، وهو بقدر ما يكون نفحةً ربانيةً يجدها المؤمن في قلبه إلا أن هناك من الأمور المكتسبة ما تُعين على تكوينه في  قلب المؤمن، ومن ذلك: استشعار الوعد والثواب، و ما يوجد في النفس من السعادة  عند تحقيق الإنجاز عند الفراغ من فعل هذه الطاعات، ويكون أيضاً من خلال قراءة وسماع التجارب الملهمة للقدوات في هذا الباب؛ فهو مما يصنع الشغفَ، ويُخّفف المشاق، و من ذلك ايضا -وهو أسها وركنها الأهم -دعاء الله بتحبيب النفس للطاعة والأنس بها في هذا الشهر الكريم.

نسأل الله أن يحبّب إلينا الإيمان ويزّينه في قلوبنا، إن ربي سميع الدعاء.

Loading

د. أحمد الناشري

تفعيل الإشعارات تفعيل تجاهل