حوافر الشّعر

الشّعر “قول موزون مقفّى دلّ على معنى”([1]). والقافية عمود ثابت من أعمدة الشّعر؛ فالبيت يبنى على الوزن، والقافية تُوازن بنيتَه، ويعدّ الوزن محورًا أفقيًّا للقصيدة، عليه مدار ألفاظها ومعانيها، أمّا القافية فهي محورها الرأسيّ، وبتركها يختلّ بناء الشّعر؛ لشدة اقتضاء البيت لها، وائتلافها مع عناصره بطرائق شتى.

والقوافي حوافر الشّعر: أي: عليها جريانه واطّراده، وهي مواقفه، فإن صحّت، استقامت جريته، وحسنت مواقفه ونهاياته. وذلك حسب تفسير حازم القرطاجنّي. والحوافر في الأصل للخيل، وهي: ما يقابل القدم عند الإنسان، وفيها قوة وصلابة، وترسم أثرًا عميقًا لسير الخيل، وأُثبتت للشعر على سبيل الاستعارة المكنية، وفي ذلك إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه البيت من تتابع وسلاسة وخفّة كخفّة جريان الخيل، يجري بالنّفس في فضاء الشّعور، ويعزف للأذن نغمًا متّصلًا غير مبتور، فإذا وقف كان لوقفته أثرٌ ظاهرٌ، وموقعٌ من النّفس عميق، تلك هي القوافي.

وإنما السرّ في العناية بالقوافي؛ لأنّ لها محلًّا من الأسماع والخواطر-كما يرى العبّاسيّ في معاهد التّنصيص. وفي تعليل حازم لأهميّة العناية بالقوافي” لا شيء أقبح من كدر بعد صفو” تشبيه ضمنيٌّ بأمر فطريِّ، في مواجهة الصّفاء والكدر، فمن لم يجرّب صفو الماء، هان عليه كدره؛ لأنّه معتاد عليه، أمّا من اعتاد الصّفو، فلن يُقبل على الماء المتكدّر أو يقبَله، ويكون أثر كدره أشدّ عليه من أثره على معتاده- والكدر والصّفو من صفات الماء في الأصل، ثمّ توسّعت دلالتهما وتطوّرت حتّى شملت المعنويّات-، وكذلك الحال في حسن المطلع، يجذب النّفس إلى النّصّ، ويسترعي السّمع، ويقبل عليه الطّبع، فلا تزال الأعناق مشرئبّة إليه، والأرواح معلّقة بما يليه، فإذا أسيء الختام على حين عُلقة بالنّصّ، جزعت النّفس ونفرت، وأنكرت ما كان من حسن قبل ذلك؛ أما إذا أساء منذ بدئه، انصرفت النّفس عنه دون أن تتعلّق بحسنه، أو ترقُبَ آخره، فتكون الإساءة بعد الإساءة أخفّ أثرًا؛ لأن النّفس اعتادت عليه.

والأصل في حروف القوافي أن توضع وضعًا متحاذي المراتب، لتتساوق المقاطع الشّعريّة تساوقًا واحدًا- على حدّ قول حازم القرطاجنّي-.

وهذا البناء القائم على التوافق والانتظام والقطع عند موضع مخصوص، يشبه تساوق الماشية في السير، وفي لفظ (التساوق)معانٍ دقيقة تتصل بصنعة القافية، فالتّساوق يحمل معنى التّتابع والتّوافق والسَّوْق، فأما التّتابع في القافية فلأنها تتبع البيت أي تلحقه، وتتبع قافيةٌ قافيةً أخرى، فكلّ قافية لها نفس الوقع(صوتًا)، والموقع(مكانًا)، الّذي يكون لسائر قوافي القصيدة، فهذا هو التّتابع.

وأمّا التوافق، ففي العلاقة بين القافية وسائر ألفاظ البيت، في الصّوت والمعنى، وبين القافية وسائر القوافي في حرف الرّويّ أو أكثر منه (كما في لزوم مالا يلزم).

وأمّا السَّوْق، ففي انقيادها واتّباعها للمعنى أنّى طلبها، كما تنقاد الماشية مع سائقها.

إنّ لموقع القافية خصوصية تزيد في مزيّتها على سائر الألفاظ، فهي قفل البيت، ومقطع المعنى، وقطع الكلام وإتمامه له صناعة وبراعة، والشّعراء فيه متفاوتون في الدرجات والحسنات؛ ثمّ هي مع كونها موضع وقوف البيت، كانت موضع جريانه، وبها تتابع الأبيات ويقفو بعضها بعضًا، فكان لابد لهذه اللّفظة من علاقات ائتلاف مع سائر مكوّنات البيت.

وعليه فإنّ الإيقاع ليس مختصًا بأصوات الحروف وتناغم البنى التّركيبيّة صوتيًا، بل إنّ للمعنى إيقاعًا، وللصورة ذلك الإيقاع، وذلك عائد إلى الأثر النّفسي الّذي تحدثه الصّور والمعاني في انسجامها وترتيبها أو تضادّها وتقابلها، فمَثل التّتابع والانسجام النّغمي، كمثل التّتابع والانسجام الدلالي في تأثيره على النّفس، حيث يتحدّر المعنى سَلسلًا منسجمًا، فيولّد ذلك تناغمًا بين المعاني، وتناغيًا وإطرابًا في النّفس، يشبه ذلك الإطراب الّذي يكون من تناغم الأصوات.

ولذلك فإنّ المحدثين ملتفتون إلى قيم التّضمين العروضي؛ لأنّهم يرون فيه سمة من سمات التلاحم بين أجزاء القصيدة، ونوعًا من حرّية الحركة الإيقاعية الدلاليّة.

وههنا وقفة على أحد النّماذج التي عدّها البلاغيّون من قبيل التّضمين المعيب، لمراجعة النّظر في قولهم من جهة أثره على كلّ من النّغم والمعنى، وذلك في قول الشّاعر:

كأنَّ القلب ليلة قيل يغدى   بليلى العامريّة أو يراحُ
قطاةٌ غرّها شركٌ فباتـتْ   تجاذبهُ وقد علقَ الجناحُ([2])

إنّ نفس الشّاعر ممتلئة أيّما امتلاء بمعنى الفراق، وإنّ هذا اليوم قد خلق طويلا- وهو كذلك في قلوب العاشقين،- وكأنّ الشّاعر لم يقطع معناه، أو يوقفه عند نهاية مبناه؛ لأنّه يشعر بأنّ ليلة الفراق لا يسعها وصف، وطول همّه لا يحدّه حدّ، فلذلك حين بلغ القافية، لم ينه المعنى الأول، بل أراد له أن يبقى مفتوحًا ممتدًا كامتداد الهمّ في قلبه، وقد علّق به البيت الّذي يليه، ولكن بمقطع ثانٍ من مقاطع المعنى وهو المشبه به، والفصل بين المشبّه والمشبّه به على هذا الشّكل، أسهم في تشكيل صورة الانفصال في القلب، وتقريب الشّعور الّذي يلتفّ به، ويكفي أن يشير بناء الأبيات إلى حالة القلق والحزن والوجد التي يشعر بها.

وأمّا الاتّساق النّغمي فلم يصبه الخلل مع وجود التّضمين، بل إنّ التّضمين قد ساعد على أداء نمط معيّن من النّغم، وذلك مما يُسهم في تشكيل الصورة التي أرادها الشّاعر، فالوقف على القافية لم يكن مقيّدا، بل كانت قافية مطلقة بوصل الواو، وكأنه نفثة مصدور، وتوجّع وتأوّه على فقد المحبوب، ذلك الصّوت الممتد لاءم طول معنى الفراق الّذي فاضت به نفس الشّاعر، وجاوزت حدّ البيت، إلى أفق النّفس والشّعور.

ويمكن أن يُلمس في التّضمين لون من ألوان الجود، فالبيت يجود بمعناه، ويفيض به، فلا ينتهي به عند حدّ القافية، ولا تقف حوافره، بل يستمرّ جريًا إلى أفق بعيد، حتّى يلتقطه البيت الّذي يليه، فيجري في فضاء الشّعور جريًا فوق العادة؛ لأنّه مدفوع بقوة معنيين، وفي ذلك تأثير وتمكين أمكن للمعنى.

إنّ تقدير قيمة أيّ أسلوب بلاغيّ بقدر ما يحمله من فوائد، بغضّ النّظر عن الالتزام بالقواعد، فالأساليب إنّما جاءت لخدمة المعنى، والغاية الكبرى من الشّعر هي التأثير على اختلاف وجوه التأثير، إمتاعًا أو إيناسًا  أو توكيدًا  أو غير ذلك، فإذا جاء التّضمين مؤدّيًا هذه الغاية في سياقه، كان من قبيل الحُسن الّذي يعلو به النّصّ ويزيد جمالا، ولا يمكن أن يوضع معيار دقيق لحسن التّضمين إلا ذلك المعيار المعنويّ الّذي يتّصل بنوع المعنى، وقدر حاجته إلى التّضمين، وكلّ فنّ إنّما يكسب حسنه إذا كانت المعاني قد مدّت إليه يدًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])   نقد الشّعر، قدامة بن جعفر، ص3.

([2])   ديوان قيس بن الملوح، ص113.

Loading

د. ندى بنت أسامة خياط