الأبعاد النفسية في رواية السمان والخريف لنجيب محفوظ

الأبعاد النفسية في رواية السمان والخريف لنجيب محفوظ ..

( 1 )

إن أشد ما يمكن أن يلاقيه الإنسان في هذه الحياة أن تنتقل الاضطرابات والصراعات الكائنة في أرض الواقع إلى داخل نفسه؛ فيغدو صدره مسرحاً لهذه الصراعات، مسرحاً متكاملاً بشخصياته وأحداثه؛ فبدل أن يحيى الإنسان شخصية واحدة إذا به يعيش شخصيات متعددة بل ومتناقضة، وبدل أن يعيش واقعاً وزمناً واحداً إذا به يعيش في أكثر من واقع وأكثر من زمن؛ لأن الاضطرابات إذا تمكنت من النفس فإنها تدفع الإنسان للهروب إلى خياله إما إلى المستقبل بأحلامه وأوهامه أو يرجع إلى الماضي بذكرياته وأشجانه.

وإن كان من الطبيعي مع نمو المرء وتقدمه في العمر أن يموت داخلَه إنسان ليحيى مكانه إنسان آخر أكثر نضجاً ووعياً لما مر به من تجارب؛ فإن من غير الطبيعي -ولكنّه وقع بالفعل- أن يموت داخل المرءِ إنسان ثم يعود للحياة بعد مدة من العمر ثم يموت ويحيى مرات ومرات، وفي كل مرة يعيد الإنسانُ نفس التجارب والأخطاء وتتجدد داخلَه نفسُ الطموحات والآمال؛ ليلاقي في نهاية الأمر النتائج نفسها بإحباطاتها وآلامها القاتلة، وهذه تماماً هي الصورة الداخلية لعيسى الدباغ بطل السمان والخريف، إلّا أنه زاد على غيره بأمر هو أشد من كل ما سبق، وهو أنه مات داخله عاشق بعد ضياع حب رهن مستقبله على نجاحه، وقد زاد من ألمه أن هذا العاشق بعد أن نسيَه عاد للحياة من جديد فأحيا معه الماضي بآلامه وجراحه، وإن كانت قضية الحبِّ قد شغلت أذهانَ الكثيرين من السابقين واللاحقين؛ فإن السابقين واللاحقين رغم اشتغالهم بقضية الحب إلا أنهم لم يخرجوا بتفسير تطمئن إليه النفوس.

ولئن كانت الرواية الواقعية تنتهج في بنائها منهجَ تعدد الأصوات لتطرَح الآراء المختلفة من خلال الشخصيات؛ فإن لنا بقليل من التجوّز أن نقول إن تعدد الأصوات في هذه الرواية إنما هو نابع من الشخصيات التي يعيشها بطلنا داخل نفسه، فكل الأصوات تعبير عن نفس واحدة.

تبدأ الرواية بتعبيرات دقيقة وموحية إيحاءً صريحاً بالأجواء الشعورية التي ستمر بنا في الرواية؛ إذ يقول الراوي عن البطل في افتتاحية الفصل الأول: “وغادر موقفه عند مقدمة العربة فسار حاملاً حقيبته الصغيرة نحو الخارج وهو يقطِّبُ استياءً ثم ساوره قلق، وتفحص الوجوه فوجدها تعكس انقباضاً مخيفاً، وتحركت في أعماقه غريزة تتنبّأ بالمخاوف”[1].

نلاحظ كثافة التعبير عن القلق وتقطيب الوجوه وانقباض النفس والتنبأ بالمخاوف والاستياء، كل هذه الكثافة توحي بما بعدها من مجريات الرواية.

وننتقل إلى بطلنا الذي عاش أول أمره موظفاً في منصب مرموق، ثم تقدم لخطبة فتاة أحبها حباً صادقاً، وهي من أسرة أرستقراطية، وكان ينتظره من وراء الغيب ترقية في الوزارة، فكان من المنتفعين ببقاء الواقع كما هو من دون تغيير.

وفجأة وبدون مقدمات تأتي ثورة ١٩٥٢ لتقلب الموازين، فيهبط حزبٌ ويرتقي آخر ليجد عيسى نفسه بلا وظيفة ولا عمل، أو كما عبر عن نفسه “بلا دور في هذه الحياة”[2].

إن أول مراحل الغربة داخل هذا العالم أن يشعر الإنسان بأنه لا دور له في الحياة، وهذا أول شعور واجه عيسى لما استيقن أن الواقع صار بعكس ما كان يؤمل ويطمح، ثم زادت غربته لما فُسخت خطوبته وخسر الفتاة التي أحبها؛ فقرر أن ينتقل من القاهرة إلى الإسكندرية رغبة في النقاهة والهدوء.

تغيّر كلُّ شيء في حياته، فحتى الأشياء التي كان يهتم لها لم يعد كذلك فـ “لم يعد يهتم بالاطلاع على الأخبار واستسلم لحديث النفس”[3] وقال عن نفسه لما وصل الاسكندرية واستأجر شقة تملكها عائلة يونانية، وكان جيرانه يونانيين، وسمعهم يتحدثون بلغتهم الأجنبية: “إني غريب بين غرباء”[4] والغربة في اصطلاح الكتّاب العدميين تحمل معاني من أهمها الشعور بعدم القيمة مع الرغبة في اعتزال الناس نتيجة لهذا الشعور ثم يتولّد من ذلك فقدان المعنى الذي يؤول بالإنسان إلى الرغبة في الانتحار.

استقرّ رأي عيسى على أن يبحث عن زوجة لعله ينشغل عن هذا الحب، ولم يكن مهتماً بمواصفات الزوجة التي سيختارها، المهم أن تكون زوجة يتحقق بها غرض الرجل من الزواج، وسبب عدم الاهتمام يرجعُ إلى أن العاشق إذا فقد حبه تساوت في عينه جميع النساء، فلا يجد في نفسه فرقاً بين واحدة وأخرى.

وقع الاختيار على امرأة “عاقر” اسمها “قدرية” والاسم يحمل دلالة واضحة على استسلام عيسى للقدر، ولكنه رغم تقدمه لخطبتها لم يكن سعيداً بها، واستسلامه للقدر “العاقر” إيحاء لشعور عميق يحسّ به المحبط، وهو الرغبة في سحق المستقبل وقتل الطموح ورفض الحياة القادمة بكل صورها، ووجه الشبه أن الرضا بالزواج من عاقر هو اختيار صريح لانعدام الذرية أي لانعدام المستقبل، ويؤكد هذا المعنى قولُ نجيب: “وتوطد نزوعه نحو تدمير نفسه”[5] ونتيجة لهذه الرغبة في تدمير نفسه صار “يعيش في الإسكندرية غير خاضع لإنسان أو لعادة ولكنه يطيع مطالب شخصه الطبيعية في حرية مطلقة، فينام اذا حل سلطان النوم ويستيقظ اذا ملَّ الرقاد ويأكل عند الجوع ويخرج لدى الملل”[6].

( 2 )

هذه صورة الإنسان المعاصر الذي لم يستطع الاندماج في العالم الجديد، لأنه كما عبّر البطل عن نفسه أنه “من الجيل الزائل” ودليل عدم استطاعته أو لنقل عدم رغبته في الاندماج في العالم الجديد أنه لما عرض عليه ابنُ عمِّه وظيفةً في مجال الانتاج السينمائي وقال عنها “ليست مجرد وظيفة ولكنها فرصة للاندماج في الحياة الجديدة”[7] كان رده رفض هذه الفرصة واختار أن يحيى عكس التيار المسيطر، وبهذا يكون قد أمعن في رفضه للواقع.

ونولي وجوهنا شطر المكان والزمان مذكرين بأن وصف المكان إنما هو انعكاس لنظرة الشخصية للمكان وإحساسه بأجوائه ومكوناته، ولِما يناسب أن يثير انتباهه في حالته المزاجية الراهنة، فإن تنبيه القارئ على بعثرة المكان إنما هو إيحاء تخييلي للفوضى التي تعيشها الشخصية داخلها، وتنبيه القارئ إلى نظافة المكان وترتيبه إشارة إلى هدوء مزاج الشخصية؛ لذلك يختلف وصف المكان الواحد بما يتناسب مع مزاج الشخصية في تلك اللحظة.

وكذلك الزمن الذي وظفه نجيب محفوظ على طريقة الوجوديين في بنائهم الروائي، إذ هم بنزعتهم إلى الشعور بالغربة يتعاملون مع الأزمنة بمشاعر خاصة، فيجعلون أحداث رواياتهم تدور غالباً في الليل وتكون وظيفة النهار النوم ولا يذكرونه إلا إذا استدعت الحاجة الفنية ذكره، ونجيب قد عوّد قرّاءه على هذا؛ فأحداث رواياته (اللص والكلاب، والطريق، وثرثرة فوق النيل، والسمان والخريف، وأفراح القبة) تدور في الليل بما فيه من شعور بالسوداوية والكآبة.

واختار فصلَ الخريفِ زمناً لأحداث الرواية إذ قال: “وعاد إلى القاهرة في منتصف سبتمبر متخمَ الحواس قد زاد وزنه زيادةً ملحوظة”[8] فسبتمبر هو أول الخريف، وتعبيره بكلمة “عاد” إيحاء بعودته لما كان عليه من حياة سابقة لا جديد فيها، عودة إلى حياة الآلام والقهر، ويحسن التنبيه إلى أن رمزية القاهرة أمر ثابت في أعمال نجيب محفوظ الرمزية بأنها ترمز إلى القهر والألم.

فرجوعه للقاهرة مع بداية فصل الخريف الذي تتساقط فيه الأوراق وتجفّ الحياة، إشارة إلى عدم انتفاعه بفترة النقاهة، بل رجع متخمَ الحواس فاقداً للنشوة والحماس، فانقلبت فترة النقاهة إلى فترة زيادة في الهموم والشعور بالغربة من الحياة، بل والانحدار في الأخلاق والسقوط في علاقة غير مشروعة وانهماك في الشرب والقمار.

أما قوله: ” متخمَ الحواس قد زاد وزنه زيادةً ملحوظة” فهو إشارة إلى أحد الظواهر الغريبة في العصر الحديث، والتي اصطلح علماءُ الاجتماع على تسميتها بـ( الشَّره المرضي أو النّهم العصبي ) وهي حالة تظهر على الإنسان بعد تعرّضه لبعض أنواع الأزمات النفسية تجعله يتناول الأكل بشراهة مفرطة حتى يُتخمَ بدنه من تكدّس الطعام على المعدة، ويُرجع علماءُ الاجتماع هذه الحالة إلى التغيّر الجذري الذي أحدثته الثورة الصناعية ودخول الآلة في الحياة الإنسانية، فإنسان ما قبل الآلة كان وقته مشغولاً في الزراعة والعمل وغيرها من المشاغل والأنشطة التي تأخذ وقته وجهده، فلما دخلت الآلة والصناعة حياة البشرية وجدَ الإنسان نفسه يعيش فراغاً وكسلاً وخمولاً ينتهي به إلى التفرّغ للملاذ والشهوات وعلى رأسها الجنس والطعام، مما يعود عليه بالسمنة وما يلحقها من أمراض.

ومن آيات ذلك ما تقيمه بعض المطاعم -وخاصة في أمريكا- من مسابقات ومارثونات لمن يأكل أكبر قدر من الطعام في وقت قياسي، ويبذلون في ذلك الجوائز للفائزين.
ونجيب في تركيزه على إفراط عيسى في الطعام وزيادة وزنه؛ يُشير إلى هذا المعنى، ولعل مما يؤكد ذلك قوله عن زوجته قدرية أنها “أتخمته بألوان الطعام التي تقدمها وبخاصة الحلوى التي تتفنن في صناعتها، وهي أكولة إلى حد الإفراط وتغري من يؤاكلها بالإفراط كذلك”[9] وقوله عن أثر هذا النهم عليه أنه “زاد من طمأنينته زواجُه الدسم”[10] وكذلك لما علق أحد أصدقائه على إكثاره من الطعام كان رده “أعلم ذلك، وسيقول الناس إن زوجتي تعلفني بسخاء”[11].

( 3 )

ويبقى عنصر مهم في الرواية؛ وهو مكانة الله سبحانه وتعالى في نفس البطل؛ ففي أحد المشاهد كان عيسى منهمكاً في الشرب ولعب القمار، فكلمه صديقه سمير الصوفي قائلاً: “أنت محتاج إلى السماء”[12] فانتبه كأنه يستيقظ من حلم، ثم تجاهله ورجع إلى القمار.

وغني عن التدليل أن نجيب يقدم الحل الصوفي لبطله حتى يخرج من أزمته الروحية، ولكن البطل يختار الانهماك في اللذة والخمر ويتجاهل النداء الإلهي، وبهذا يُمعن البطل في البعد عن الله فتزيد معاناته وتستمر آلامه.

وحتى يؤكد نجيب في نفسِ قارئه أن التصوّف هو الحل؛ ذكر في أحد المشاهد أن عيسى وقع في خلاف مع زوجته قدرية، وحاول التصالح معها فلم تستجب، ولكنها عندما تدخل سمير الصوفي للصلح بينهم استجابت؛ ليقول لك نجيب أن تصالح البطل مع قدره إنما يكون بالتصوّف.

وفي نهاية الرواية عرف عيسى أن لديه بنت عن طريق بنت ليل تعرف عليها في علاقة غير شرعية فأنجبت له طفلةً وخبَّأتها عنه خمس سنين، فلما رأى الطفلة وعرف أنها بنته حاول الاقتراب منها لكنها أنكرته وابتعدت عنه ورفضته رفضاً شديداً؛ وهذه إشارة لرفض الجيل الجديد -في فترة صدور الرواية- للجيل القديم بأفكاره وقضاياه، رغم محاولته الملحّة للقرب منها ولكن بلا جدوى.

وكعادة نجيب محفوظ عندما يقترب من إنهاء رواياته يأتي بحوارات مركزة تلملم أغراض الرواية؛ ففي حوار بين عيسى وأحد أصدقائه قال له مصارحاً أنه صار يحبّ “أفلام الرعب”[13] وفي هذا إشارة عميقة للتشوهات النفسية التي ترسمها الحضارة الغربية المعاصرة في نفوس الناس، فإن الإنسان اذا فسد واقعه أصبح يبحث عن ما يؤلمه ويُفزعه.

فميول البطل إلى أفلام الرعب بعد ما مر به من آلام تعبيرٌ يسوقه نجيب محفوظ ليقول لقارئه إن تقلبات الواقع تنعكس على مشاعر الإنسان، والبحث عن الرعب والألم يأتي بدافع روحي عميق من الكبت الداخلي الذي يعيشه الإنسان فيحتاج لشيء يُشغل نفسه عن الشعور بالكبت والخوف والقلق؛ فيجد في إفزاع نفسه مُتَصَرَّفاً لهذا الشعور العميق.

وختاماً نرجع إلى عنوان الرواية لنقول إن البطل عاش حياته حائراً تائهاً كطائر السمان الذي يطير ويتنقل بين الأشجار بلا هدف؛ وهذا إسقاط للحضارة التي بسطت سلطانها اليوم على الناس إذ تسير بلا هدف ولا معنى، وأن الخريف هو السقوط والذبول الذي انتهى إليه البطل نتيجةً للظرف الحضاري الذي عاش فيه والذي نعيشه نحن أيضاً؛ فما البطل إلا رمز للإنسانية.

ــــــــ
السمان والخريف – نجيب محفوظ – دار الشروق الطبعة الخامسة 2012 – صـ5.[1]
السمان والخريف صـ65[2]
السمان والخريف صـ118 [3]
السمان والخريف صـ63 [4]
السمان والخريف صـ59 [5]
السمان والخريف صـ72 [6]
السمان والخريف صـ59 [7]
السمان والخريف صـ107 [8]
السمان والخريف صـ105 [9]
السمان والخريف صـ120 [10]
السمان والخريف صـ120 [11]
السمان والخريف صـ121 [12]
السمان والخريف صـ

Loading

أ.عبدالله الموسى