اللغة في الأصل: “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”، فهي نظام من الأصوات، تستخدمه أمة معينة، وفق قواعد محددة، للتعبير عما يختلج في نفوس أصحابها، وليست اللغة مجرد وعاء لفظي يحلّ فيه الفكر، وإنما الفكر نشاط ذهني غير مستقل عن اللغة، ولذلك اختار الله الرسل بلغات أقوامهم؛ ليكتمل الفهم، وتُبْنَى القناعات، وتقوم الحجة على الذين يتخلفون عن ركب الحضارة الذي يقوده الرسل عليهم الصلاة والسلام، وسماها القرآن الكريم اللسان، قال تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” إبراهيم 4، وقد ارتبط مفهوم الهُوية منذ ظهوره بمصطلح اللغة، فاللغة كانت وما تزال من أهـم العناصر المشكلة للهوية الاجتماعية الثقافية.
وإذا كانت “اللُّغة” مطلقة هي رمز الهُويَّة، فإنَّ “العربية” ذاتُ خصوصية، فهي من شعائر هذا الدين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون”، وهي أعلى من مجرَّد لغة وأكثر عمقًا، وأشدُّ التصاقًا بناطقيها وتمييزًا لهم، لأنَّها تمتلك القداسة المستمدة من ارتباطها بكلام الله تعالى، هذه القداسة التي جعلت منها جزءًا من الدِّين، والدِّين هو أهمُّ عوامل الهُويَّة وأقواها حضورًا عند الإنسان، أيًّا كان، ولأن العربية أيضًا محفوظة، فإن الله عز وجل تكفل بحفظ القرآن الكريم؛ فقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] والعربية لغته، وهذه من أهم عناصر القوة فيها، إضافة إلى الثراء المعجمي والاتساع الدلالي اللذين يعطيانها القدرة على البقاء والمواكبة الحضارية.
وليس ذلك من العصبية للعرب والعروبة، فإن هذه ممقوتة إذا كانت بمعزل عن الدين الإسلامي، أما إذا هيمن عليها، وانضوت تحت أحكامه، وتجلت فيها قيمه ومبادئه العليا، فإنها من شعائره ورمز هويته، يحبها كل مسلم ولو لم يكن عربياً، ويسعى لفهمها قدر استطاعته، فإنها بوابة هذا الدين ومنهجه القويم، فإن من أحبها وتعلمها صار من بنيها بنسب أو سبب.
ولذلك فإن إدراك هذا المعنى الكبير واستشعار أهمية اللغة العربية في الحضارة الإسلامية، وعمقها في إظهار الهوية وقوة الانتماء من أهم الدوافع لتحصيل علوم العربية، وتكوين الملكة اللسانية، ومعرفة أسرار تميز هذه اللغة الشريفة وسموها، وتذوق بيانها.
وفي مقابل عناصر القوَّة المشار إليها، ثمَّةَ عنصرُ ضعْف لا علاقة له مباشرة بالعربيَّة نفسها؛ بل هو مرتبط بأصحابها وهزيمتهم النفسيَّة، فإنَّ لغةً أصحابُها مهزومون نفسياً لا يمكن أن تصمد في وجه أيِّ تحدٍّ، ولا يُنتظر أن تقوم بوظيفتها، وإنَّ أيَّ لغة – مهما كانت قويَّة – لا تستطيع أن تفعل شيئًا في عقول مهزومة، وألْسنة معوجَّة، وعليه فإنَّ على العقلاء أن يبدؤوا بالنهوض من عثرتهم، والإيمان بقدراتهم، والثِّقة بأنفسهم، وأوَّل علامة من علامات النهوض الإيمان بلُغتهم، والثقة بأهليتها، والاعتزاز بها، والحِرص على إحيائها في المجالات كافة.